عبدالناصر .. شهيد الشهادة

إبراهيم أحمد الحسن
جاءني صوتها من غياهب بعيدة، لم أتبين مخارج الحروف عندها، أردفت ذلك بأن ارتفعت طبقة فوق درجات الصوت لتردد ذات العبارة، وعندما لم تجدِ محاولاتها معنا فتيلاً وقد علا صوتنا نتجادل في الممر وسددنا الطريق إلى الباب، عندها صرخت في غضب وقامت بدفعي بيديها الصغيرتين وهي تصيح: (زِّح بابا جاء)!! كانت الطفلة ذات الثلاثة أعوام تريد أن ترى الطريق سالكاً أمام أبوها بلا عوائق، فاستخدمت ما تملك من قوة لتفتح الطريق. أفسحنا الطريق ومر أبوها، ولكنني وقفت ساعة زمن أتأمل قول الصغيرة إصرارها على فتح الطريق وهي لا ترى في تلك اللحظة شيء في الدنيا أهم من فتح الطريق لوالدها.. (زِّح بابا جاء).. ومن كل العبارات والمواقف والتجارب والحكايات والعبر لم يستوقف خاطري وأنا أسمع الخبر شيء سوى عبارة الطفلة وهي تفتح الطريق لوالدها..
إذاً ترجل الأستاذ، رحل صديق الطفولة والصبا، أفسحوا له بالدعوات الطريق الى الجنة وقد جاء يحمل بيمينه كتاب وبيمنيه الكتاب، بذل عمره للمهنة الأسمى، ثابر ووظف ذكاءه الحاد في خدمة العلم والتعليم كانت رفيقته الطبشورة والسبورة وقلم التصحيح، دأب في إبداع على تصحيح أوراق أجوبة امتحانات الشهادة السودانية قرابة الثلاثة عقود وقلم التصحيح مقره في الجيب أعلى الصدر جوار القلب. أكاد أجزم أن الهدوء عندما قُسم للأنام كُتب عليه اسمه وكذلك الرزانة والوقار، أما الذكاء فلم يقابلني طيلة حياتي من هو أكثر منه ذكاءً، كنا لا نستبين هذا الذكاء الذي كان يخبئه بتواضع من عيون البشر إلا عندما تستعصي المسائل فيبرز لها الفارس عبدالناصر فيجندلها طوع أفكاره تحت وطأة أسئلة أستاذ صارم، زاملناه تلميذاً مجتهداً وطالباً لماحاً وصديقاً صدوقاً، إذا أمسك القلم ليُعبر فلن تجد عبارات أجذل مما يكتب، كان يمتلك نواصي الأدب والبلاغة والنحو والإملاء، أما الإنشاء فهو المضمار الذي يصول فيه ويجول بلا منافس. وعندما تخرج من الجامعة اختار التدريس مهنة وتخصص في الرياضيات وعويص مسائلها وتفنن في الحلول مثلما كان أيام الدرس.
فرغ للتو من المشاركة في أعمال الكنترول التي تسبق أو تعقب الإعلان عن نتيجة الشهادة السودانية قفل راجعاً الى مدينته التي أحب الأبيض، ما زال القلم معلقاً في جيبه أعلى الصدر قريب من القلب والكتاب الذي أحبه يحتضنه بيمينه، ألم خفيف تسلل إليه خلسة عالجه بضغطة خفيفة على القلم في الجيب أعلى الصدر قريب من القلب. وراجع الطبيب الذي طلب منه أن يرتاح لمدة خمسة أيام، بذات الهدوء الذي تسلل به اليه الألم، وبذات الوقار والرزانة وبذأت الصبر والجلد والابتسامة الهادئة عاد الى المنزل، أغمض جفنيه نطق بالشهادتين، أسبل روحه ومات.
هكذا رحل الأستاذ عبدالناصر أحمد فضل المولى، ماذا تراني أقول وقد تيتمت أجوبة امتحانات الشهادة السودانية وحار بها الدليل، كل الأساتذة جيدون، شرفاء ونبلاء ومخلصون، لكن أستاذ عبدالناصر هو وحده الذي يجعل مستقر قلم التصحيح وبصورة مستدامة في جيبه أعلى الصدر قريب من القلب.
(زِّح بابا جاء) العبارة التي لم أتذكر غيرها وأنا أسمع الخبر وساعتها أزحت كل شيء كل شيء وأفسحت للحزن الأبواب كلها يدخل منها وجلست أبكي.
يالله قد أتاك ناصر بكتاب وأعمال صالحات لا نحصيها نحن وتعلمها جل شأنك علام الغيوب فاغفر له وارحمه واجعل البركة في ذريته، اللهم اجعل الجنة مثواه والفردوس الأعلى مأواه، اللهم ألهم أهله وذويه وزملاءه وطلابه وجيرانه وأصدقاءه الصبر وحسن العزاء، إنا لله وإنا اليه راجعون ولا دائم الا الله.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب