علي السقيد: صوت طروب بذوق متميز

بقلم صلاح شعيب

السقيد فنان متمكن في أدائه الصوتي، وعزف العود بأسلوب مميز، وأثبت قدرة واضحة في تأليف العمل الغنائي ما جعله في طليعة الفنانين الذين شكلوا بصمة واضحة في المجال، وذلك منذ ظهوره القومي لأول مرة في المسرح القومي بأمدرمان في عام ١٩٨٠. وما يزال فنانا يسعى بعد عودته من غربة عن بلاده دامت أكثر من خمسة عشر عاما لإنتاج أعمال جديدة حتى تراكم في مجهوداته التي بذلها في الثلاثة عقود الأخيرة.
ولد علي محمد أحمد السقيد في حي ود ازرق في ود مدني في عام ١٩٥٥، ودرس الأولية في مدرسة المزاد ثم الأهلية الوسطى، وود أزرق الثانوية.
في تلك الفترة التي بلغ فيها سن الرشد كانت مدني تنافس الخرطوم في كل شيء، حيث كان المناخ الفني فيها خصوصا عند نهاية الستينات والسبعينات ينبئ عن أنها ستزف إلى هنا أمدرمان كوكبة غنائية سيكون لها شأن في دعم التحديث الغنائي، والحظ الأوفر في تحقيق جماهيرية واسعة.
فالسقيد استهام منذ المرحلة الأولية بغناء الحقيبة، والرواد، وكان يحفظ الألحان بسهولة ما أهله هذا للبراعة في تلحين الأناشيد المدرسية. على إيقاع، ونغم “أفديك بالروح يا موطني” لعثمان حسين لحن نشيد “بلادي فداك دمي.. وهبت حياتي فدا فأسلمي” فلفت أنظار أساتذته، وزملاءه التلاميذ.
تعلم العزف على العود في المرحلة المتوسطة في سن الحادية عشر، ومخزونه من حفظ الألحان تجوهر كدفع كبير لتمارين متواصلة لإتقان العود حتى تمكن من الإجادة التي جعلته يعزف لزميل دفعته الدراسية الفنان الراحل عبد العزيز المبارك. وفي نشاط الجمعية الفنية، والرحلات المدرسية، يتعاونان لتشجية المستمعين، وكذا يعزف لبعض الطلبة ذوي الصوت الحسن في زياراتهم المدرسية، والتي امتدت إلى ربوع كردفان، وتخوم النيل الأزرق، في عام ١٩٧٣.
واصل نشاطه الفني بمدني الثانوية، وكذلك بلغ الأندية بالمدينة، ومركز شباب مدني، واتحاد فناني الجزيرة. بدءً من عام ١٩٧٤ حتى ١٩٧٧ اجتهد في تقليد الفنانين الحافر بالحافر أمثال أبو عركي، ووردي، وزيدان، ومحمد الأمين، وكان يغني في حفلات الأعراس مع مجايليه فناني مدني، منهم شقيقه عبد الفتاح السقيد، والرشيد كسلا، والحردلو، وبدر الدين الشبلي، وإبراهيم عوض، وعبد العزيز المبارك، ومحمود أبو لكيلك. لكن طموحه كان أكبر من التقليد، والاكتفاء بجمهور المدينة.
جاء إلى المعهد العالي للموسيقى والمسرح في عام ١٩٧٧، ووجد فيه لمدى خمسة أعوام شغفا جديدا يُحيط طلبته المهمومين بتحديث الغناء، والمسرح معا. سبقه إلى الخرطوم – والمعهد كذلك – بعض أبناء مدني المغنين الذين كان يعزف لهم، وثابر ثم ثابر حتى يتحصل على زاد أكاديمي يُعينه على إبراز مواهبه في التأليف، والغناء، وأيضا قيادة الفرق الموسيقية.
المعهد العالي للموسيقى والمسرح مثل نقطة تحول كبيرة في حياته الفنية. جدّ في التحصيل الأكاديمي بصبر، وترك التقليد ريثما تتضح ملامح مستقبله الغنائي، ثم بدأ رحلة البحث عن ذاته، وصوته الخاص، بعيداً عن التأثر بمخزونه اللحني الذي كان يتنامى باستمرار.
انكب في أوقات فراغه لإجادة العزف على البيانو، والتنقيب في مغارة الحقيبة، ليقطف من زهراتها ما أهمله الفنانون. وبعد تمارين شاقة، ومتأنية، لأربع سنوات خلق مشروع صوته الذي وصل إلينا برخامته المحببه، وتطريبه البائن، لكل الذواقة.
ولما حرص على إتقان تخصصه في التأليف، وقيادة الأوركسترا، تخرج السقيد بدرجة الشرف الأولى بامتياز. ولأنه كان موهوبا فقد نال جائزة التفوق الأكاديمي في كل مرحلة من مراحل دراسته.
في عام ١٩٨٣ التحق بقصر الشباب والأطفال، ووجد هناك العازفين ممدوح محمد طاهر، وفريد، ومدثر بابكر، وسلمى علي عبد القادر، وأحمد حمو، ومهدي آدم.
أثناء عمله في القصر استانف نشاطه مع مركز شباب السجانة، وفرقة النورس، ورويداً رويداً طغى اسمه كمغنٍ محترف في بيوت الأفراح، وشارك في الحفلات الجماهيرية بمواقعها المتعددة في العاصمة. وفي المكتبة القبطية، وحول حوض السباحة في الفندق الكبير، تجد له برنامجا أسبوعيا بجانب الفنانين الذين يؤدون حفلاتهم هناك أمثال عركي، ومصطفى، والهادي حامد.
تاركاً القصر المشيد في عام ١٩٩٢ خلفه، غادر السقيد إلى القاهرة. هناك كانت أولى خطواته لإنجاز عمل مؤسس يربطه بالجمهور العريض على امتداد البلاد. وبعون الفنان يوسف الموصلي في التوزيع الأوركسترالي أنجز البوم “المشاوير” عبر شركة حصاد حيث شارك بالعزف فيه، بجانب جوقة الموسيقيين، الفنان محمد وردي الذي أدى الصولو بآلة الطمبور في أغنية الألبوم . وكانت لفتة بارعة من وردي وجدت التقدير الكبير من السقيد، ورسخت قناعته بأنه يمكن أن يقدم تحديثاً للغناء يبين قدراته كمؤلف، ومغنٍ يشار إليه بالبنان، ولا يخيب ظن وردي فيه، وكل سميعة مدني الذين تنبأوا بأن سيحجز مكاناً عليًا في دنيا النغم.
في عام ٢٠٠ أصدر ألبوم “كلامك لي” باستديو سودانيز ساوند، واستخدم فيه العود، وإيقاعات الدلوكة، والبنقز، والطبلة، والكونكا، التي نفذها جميعا العازف البارع حاتم مليجي، وطبع ذلك الألبوم في أميركا، ثم أردفه بألبوم “جيت من وين” عبر استديو قناة الخرطوم، وأنتجته شركة شذروان. الموسيقار سعد الدين الطيب قام بتوزيع أعمال الألبوم، وشارك العازفون ميرغني الزين، وإسماعيل عبد الجبار، والمعز إبراهيم، وعثمان النو، في الأوركسترا.
بعدها غادر السقيد إلى الدوحة بدعوة من الفنان عادل التيجاني، والشاعر مدني النخلي، اللذين أكرما وفادته، ونظما له حفلات ناجحة بمشاركة عادل في فندق العاصمة، وأماكن أخرى، وشرف الحفلين الراحل مصطفى سيد أحمد، وشارك بأداء أغنية له.
من الدوحة غادر فنانا إلى مسقط، ووجد هنك حفاوة أصدقائه نجوم الكرة أمثال التاج محجوب، ومبارك سليمان، وحسن بشارة دحدوح، وعمر العلمين هداف السلطنة لكرة القدم آنذاك. هناك وفي صلالة قدم حفلات بدعم زملائه فيصل سيد أمام، ومدثر بابكر المهدي.
المسرح كان حاضراً في تجربته الغنائية. فضمن اهتمامه به قدم السقيد في عام ١٩٨٦ تجربة ناجحة في تلحين عدد من المقاطع الشعرية لأعمال طلاب قسم المسرح بالمعهد، واستفاد كثيراً من تلك التجربة، حيث كان التواصل بين طلاب الموسيقي والمسرح المجاورين قد عمق نظرته لأهمية دور المسرح بشكل عام، وإمكانية خلق التثاقف الإبداعي.
ويتذكر أنه شارك بطلب من المخرج طارق البحر بالغناء في مسرحية نبتة حبيبتي للمسرحي هاشم صديق التي قدمها الطلاب ضمن مشروع التخرج في عام ١٩٨٦.
وامتد هذا التعاون أثناء عمله بقصر الشباب والأطفال حيث التقى المسرحي والشاعر الراحل عماد الدين إبراهيم الذي كان يعد لإنتاج مسرحية “بت المنى بت مساعد” فطلب منه تلحين، وأداء، مقطع من “أرض الطيبين” أو “جينا نخت أيدينا الخضرا”، وتوفق في اللحن. وبعد انتهاء العروض طلب من عماد الدين إكمال النص ليحوله إلى أغنية متكاملة فخرجت للجمهور بشكلها الحالي حيث رددها عدد كبير من الفنانين.
أتيحت للسقيد أيضا فرصة في إذاعة هنا أمدرمان عبر بعض الأعمال الدرامية. وقد شارك في تقديم المادة الغنائية لمسلسل الحاجز من تأليف الشاعر هاشم صديق أيضاً، وإخراج الأستاذ صلاح الدين الفاضل. وكذلك ساهم في مسلسل من تأليف، وإخراج، الأستاذ عمر إسماعيل العمرابي حيث قدم المقاطع الغنائية له.
عبر قيادة الأوركسترا، والكورال، شارك السقيد في مهرجان في الخرطوم عام ١٩٨٠ ثم مهرجان الإبداع الثقافي بالجزيرة حيث اُختير مقرراً للجنة الموسيقية، وكُلف بقيادة الأوركسترا التي قدمت أعمال الرواد، والواعدين من الإقليم.
كما شارك في مهرجان الربيع الفني ببيونغ يانغ حيث قدم أغنية سودانية واخرى كورية وجدت تجاوباً كبيراً من الجمهور. كذلك شارك أثناء غربته في الولايات المتحدة في مهرجان السودان الفني في سنترال بارك في نيويورك، وشيكاغو، وديترويت وجد تجاوباً كبيراً فضلاً عن مشاركته في العديد من نشاطات الجالية السودانية هناك.
وتعاون علي السقيد مع عدد من الملحنين إذ منحه محمد وردي “شالت عناقيدك” ويوسف الموصلي “سكة ندية” للراحل عز الدين هلالي و”كل النجوم” و”ختمت بيك الاغنيات” و”حواري غناي” وشاركه اللحن في إحدى الأغنيات. وتعامل مع عبد اللطيف خضر عبر “خيوط الفجر” و”عاشق مجنون” لمدني النخلي، وبشير عباس “ازيك مع الأيام” و”أنا يا بلد” و”غربة عشانك”. وعمر الشاعر منحه “بحلم بيك” و”بين عينيك” وضياء الدين ميرغني “أمر الهوى” للشاعر سعد الدين إبراهيم و”عز الفرحة” للشاعر عبد الوهاب هلاوي، و”لون الدهب” لعزمي أحمد خليل، و”ازيدك حب” و”بيني بينك” لسعد الدين إبراهيم.
لحن السقيد لمصطفى سيد أحمد “السحاب” للشاعر يحيي فضل الله العوض، وغنى له عبد الفتاح السقيد “أصلك أنا” للشاعر جمال عبد الرحيم.
وربطته مع الشاعر مدني النخلي ثنائية متواصلة أنتجت تلحين عدد هائل لزملائه الفنانين. وقال عن ثنائيته مع النخلي إنها كانت محفزة حيث تعاونا لمدى عقد من الزمان دون أن يلتقيا إلا في الدوحة عام ١٩٨٥. واشار السقيد الى ان غالب اشعار مدني لحنها خارج السودان. من ضمن ثمار هذا التعاون “عظمة هواي” “فرح القصايد” “الشالن الصفقة” لخالد الصحافة “شلعت برق” و”يا صديقة كل زول” والتي غناها ابو بكر سيد احمد، و”مدن التعب” و”خت النقاط فوق الحروف” وأغنية للأم للبلابل، والزحام التي غناها اسامة الشيخ، فضلا عن غنائه “ثابت في حبك متفاءل” للشاعر عماد الدين ابراهيم، و “قصة غرامنا” للشاعر الشيخ محمد عثمان. و”دعوة فال” التي غنتها شموس ابراهيم فضلا عن غنائها من اعمال النخلي”قلبي المعاك” للشاعر صلاح حاج سعيد. وفي الآونة الأخيرة قدم “زول حنين” للدكتور ياسر الحسن والتي يقول يقول مطلعها:
يا سلام لو أي زول يوم تضيق الدنيا بيهو
يقدر يلقى وسط همومو
زول حنين يسأل عليهو
زول تفتش ليهو روحك
لما تحتار تمشي ليهو
وقد لاقت الأغنية نجاحاً كبيرا بإيقاعها المتفرد، وقد رددها كثير من الشباب.
التحية للفنان الكبير علي السقيد، وهو ما يزال يواصل في مشواره الذي بناه بكثير من المثابرة، والجدية في إتقان الحداثية الغنائية عبر تأليف مختلف. وحق له أن يمتلك حيزاً كبيراً في دنيا المبدعين المتميزين في بلادنا، فالسقيد معروف بوداعته، وطيبته، وسماحته. ولكل هذا جمل غربتنا في الولايات المتحدة بعشرته الجميلة، ومشاركاته في كل المناسبات السودانية. وما برحنا نستزيد من هذه الروح الندية التي تركها لنا في هذه الغربة الممتدة.
كل الأمنيات الوريفة للفنان علي السقيد، وما نزال ننتظر منه الكثير لترقية، وجداننا السمعي. وعلى صعيد مساهمته الوطنية فقد كان السقيد محباً لبلاده، وتمثل ذلك في مواقفه المشرفة ضد الاستبداد، حيث عمل على مقاومته طيلة فترته في خارج السودان. وبأغانيه الجديدة عبر عن أحلام أمته من أجل الاستقرار، والتقدم، والسلام. وليكن الرجاء أن يواصل حلمه بتحديث الغناء بكثير من جمال روحه، وشفافيته، وحبه الأكيد لبلاده، وقدرته على صنع الدهشة الفنية.

 


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب