بدون زعل
جوزيف مكين إسكندر، رجل الأعمال السودانى القبطى الشهير، في “ليلة الأقباط”، ضمن فعاليات “خيمة الصحفيين”، بفندق الميرديان، قبل سنوات، وحين جاء دوره، بروحه المرحة تلك، قال: “إنتو قايلين الأقباط ديل فى المسالمة بس، ولا شنو؟ وجايبين “الجقر” يغني ليكم غنا ناس أمدرمان، كمان.. نحنا أقباط الأبيض، الغرابة.. ما بتعترف ليكم بالمسالمة بتاعتكم دي.. نحن رِبِينا في الأبيض كأسرة واحدة.. أقول ليكم حاجة؟ قبل كم شهر مشيت السعودية، عندي شغل.. وبعد انتهيت، في جدة، قبال أسافر، كنت ماشي أعمل عمرة.. لكن السودانيين قالوا لي ما في داعي.. اشتريت إحرام عدييييل كدا”.
شايف كيف؟
جوزيف مكين علامة سودانية قبطية.. وهي علامات مضيئة، قل أن يلتفت إليها أحد.. يكفي الأقباط فخراً، أن أكثر سوداني تأليفاً وترجمة منهم وهو هنري رياض، الذي بلغت كتبه أكثر من سبعين كتاباً، يفوق البروف عبد الله الطيب، الذي تجاوزت مؤلفاته الخمسين..
شايف كيف؟
الذي استوقفني هو الجلال الذي يحيط بـ”مكة”.. الاستغراق الذي يأخذك إلى “بداية الأشياء”، بعبارة الطيب صالح، عندما كتب عنها.. ولو كنت أحد السودانيين الذين التقاهم جوزيف مكين لأخذته إلى مكة، وجعلته يؤدي العمرة.. ثمة معنى لا يمكنك إدراكه إلا هناك.. وهو – غالباً – السبب الذي جعل آيات الحج جميعاً تتحدث عن “الناس” وليس المؤمنين أو المسلمين.. “لله على الناس حج البيت”، “وأذن في الناس بالحج”، “وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً..”، وغيرها من الآيات.. منع الله تعالى المشركين من دخوله، فقط.. لكنه لم يمنع “أهل الكتاب”، وثمة فرق كبير لا يدركه المتنطعون، وكلاء الله على الأرض.. آخر سورة نزلت من القرءان، سورة التوبة، أو براءة.. كانت تعلن موقف الدين الإسلامي من المشركين، وتتبرأ منهم.. لكنها لم تعرض لأهل الكتاب، قط.. عرضت للمنافقين والمرجفين في المدينة، المخذلين، المندسين..
شايف كيف؟
كان محمد عبد الله الأهدل، السيناريست، الصديق السعودي، المكاوي قد قرر أن يرينا شعاب مكة.. فأهل مكة أدرى بشعابها.. قال بعد أن تفرغوا من العمرة، سأريكما شعابها.. أخذنا محمود عبد الله، المخرج الفنان وأنا، في رحلة تعريفية لمكة. يقود سيارته الجيب، صعدنا جبل خندمة، أعلى جبال مكة.. أخذنا إلى الغار، إلى تفاصيل ومعالم تأريخية لا يميزها إلا أهل مكة.. صلينا في مسجد الخيف، وهو المسجد الذي صلى فيه ألف نبي ومرسل.. شربنا الشاي المكاوي، تنسمنا هواء الليل، الهزيع الأخير منه.. أزقة عجيبة، وليل جليل.
حين نزلت، قبل لقاء الأهدل، الحرم، معتمراً، وقفت مأخوذاً من مشاش روحي وعظامي.. ثمة تأثيرات – لا أشك فيها – ترجع إلى افتتاني المهيب بكتابة الطيب صالح عن مكة.. ثم تأثيرات قاهرة لحسن الترابي وهو يتأسى على تقديس السودانيين، والمسلمين عامة، للمدينة واستعجالهم مغادرة مكة.. ساخراً يقلد المتصوفة الذين يجعلون غرضهم “بلح المدينة”، بينما “الزيت” في مكة، بعبارة شباب اليوم.
شايف كيف؟
مكة “بداية الأشياء”، أن تعود إلى “أصل الأشياء”، كما قال الطيب صالح. أسسا، هو وحسن الترابي، وقفتي الأولى أمام الكعبة المشرفة. تستحضر إبراهيم وإسماعيل وهاجر، عليهم السلام.. يقف أمامك الألف نبي وقديس ورسول ووصي وولي صالح.. لا بد أن المرء سيفوت شيئاً عظيماً، شيئاً جذرياً ومفارقاً، سيفوتك، إن لم يفتح عليه الله – تعالى – بزيارة مكة، الحرم الآمن.. يعرف الذين حباهم الله بذلك، دقة هذا المعنى وجلاله.. يستفهم أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، عليه السلام، لافتاً نظرك إلى أنها “حجارة لا تنطق، ربط رضاه، موالاته، بها”..
شايف كيف؟
يستفيض الفقهاء، الأصوليون في وضع الإشكالية الفقهية، تفنناً منهم ” لو أنك وقفت تصلي أمامها – الكعبة – وكنت ساجداً، ورفعها الله، تعالى، فجأة، وصدف أن كان مقابلك شخص واقفاً: هل يكون سجودك له؟ هل تكون صلاتك إليه؟”..
أحب افتراضات العقل الفقهي التي لا تنتهي.. مثل مدرس الرياضيات.. ثمة دائماً احتمالات للأشياء والقضايا.. وهي الافتراضات التي يستل منها الفلاسفة المسلمون أدلة وجود الذات الإلهية، واجب الوجود، المحرك الذي لا يتحرك، تقدست أسماؤه. كما فعل الشيخ الرئيس ابن سينا، في دليل “جواز أن يكون العالم على غير ما هو عليه”.
شايف؟
لعل محمد بن سلمان، في إصلاحاته الهيكلية، يجد من يفتي له بجواز زيارة وعمرة وحج أهل الكتاب، فيجد جوزيف مكين نفسه أمام البهاء الكوني.. وكل الطامعين في تجلياته على الحجارة.. الأقباط جميلون.. فقط لو أنهم غيروا صفحتهم على الفيسبوك من “أقباط السودان”، إلى “الأقباط السودانيين”، حتى تكون سودانيتهم لازمة..
وتلك مسألة لغوية سنعالجها، متى ما توفرت قبطية بالجوار…
شايف كيف؟
عبد الحفيظ المريود يكتب: لا أقسم بهذا البلد
