المفكر د. النور حمد لـ(اليوم التالي): لا يمكن أن ينبع أي فعل ثقافي في ظل دولة غير مستقرة

كتاب مهارب المبدعين لا يمثل محاكمة لأحد
مشروعي الفكري في طفولته لأنني التفتُّ اليه مؤخراً
حاصل على شهادة الدكتوراة في التربية من جامعة إلينوي بالولايات المتحدة الأميركية يعمل باحثاً ومديراً لتحرير دورية “سياسات عربية” ورئيساً لقسم التحرير في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة (2012-2016). يشتغل بالبحث والتأليف في جذور الهوية السودانية.
ﺻﺎﺣﺐ ﺳﻴﺮﺓ ﻧﻀﺮة ﻭﻓﻜﺮة ﺛﺎﻗﺒﺔ ﻓﻲ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ الثقافية ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺑﺎﻟﺴﻮﺩﺍﻥ إنه ﺍﻟﻨﻮﺭ ﺣﻤﺪ والذي ظل ﻃﻴﻠﺔ ﺍﻟﻔﺘﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ ﻳﺮﻓﺪ ﺍﻟﺴﺎﺣﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴﺔ ﺑﻜﻢ ﻣﻘﺪﺭ ﻭﻧﻮﻋﻲ ﻣﻦ ﺍﻷ‌ﻃﺮﻭﺣﺎت.. حيث صدر له:
(مهارب المبدعين قراءة في السير والنصوص السودانية، ولماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل؟ العقل الرعوي).. ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﻮﺍﺭ نقلب معه بعض القضايا السياسية والفكرية والثقافية إلى عدد ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ والثقافية..
الخرطوم: محمد إسماعيل
كيف تقرأ طفولتك وأين قضيتها؟
طفولتي كانت طفولة عادية كطفولة سائر أبناء المزارعين في مشروع الجزيرة، أمضيتها بين القرية (حلة حمد الترابي)، وبين الحواشة، (المزرعة)، وبين المدرسة، ونسبة لقلة المدارس الابتدائية في ذلك الزمان، في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كان الطلاب يُرسلون إلى الداخليات. ولذلك درست سنتين وأنا في سن التاسعة والعاشرة، في داخلية مدرسة المعيلق الابتدائية، ورغم أن إيداع طفل في سن التاسعة في مدرسة داخلية يحرم الطفل من أن يعيش طفولة طبيعية، إلا أن ذلك كانت له بعض الميزات، وعلى رأسها تحمل المسؤولية والاعتماد المبكر على النفس.
– لكل فنان بداية، وتبدأ عادة موهبته بالظهور منذ الطفولة، حدثنا عن بداياتك الفنية.. كيف بدأت السير في دروب الفن التشكيلي وما الذي قاد خطواتك إلى كلية الفنون؟
يقسم علماء الإدراك cognition الدماغ من حيث الاستعداد الفطري للتعلم، إلى قسمين، يسمونهما: الدماغ الأيمن، والدماغ الأيسر، فبعض الناس يكون المسيطر على نمط استعدادهم للإدراك الدماغ الأيسر، وهؤلاء يكون لهم استعداد للتعلق بمواد العلوم؛ كالرياضيات والفيزياء وما يتصل بها من العلوم، وما يتفرع منها، أما أصحاب الدماغ الأيسر فيميلون إلى العلوم الإنسانية، بما فيها الآداب والفنون بمختلف تفرعاتها، فالمرء يولد ويكون المسيطر لديه بدرجة أكبر، واحدٌ من هذين القسمين من الدماغ، فأنا من الفئة التي تغلب على استعدادها للتعلم سيطرة الدماغ الأيمن، وعلى سبيل المثال، كنت لا أحب الرياضيات ولا أحب الفيزياء، ولا أحب المعضلات الرياضية حتى في الألعاب الذهنية، كان ميلي منصباً على الآداب والفنون، والجغرافيا، والتاريخ، واللغات، وعندما كبرت نما اهتمامي بالفلسفة وبالفكر بصورة عامة، باختصار منذ الطفولة اهتممت بالصُّور في الكتب المدرسية، وشرعت في تقليدها، وهكذا واصلت في ممارسة الرسم والخط والمهارات اليدوية، إلى أن وصلت إلى كلية الفنون.
– أنت فنان تشكيلي وعازف وملحن وكاتب أين تجد نفسك؟
في صباي وشبابي الباكر كنت أجد نفسي في الرسم والموسيقى والأدب. لكن مؤخراً استغرقني البحث في قضايا الفكر المختلفة، وأصبحت أجد نفسي في الكتابة أكثر من أي شيء آخر.
– كنت عضواً فى جماعة الإخوان المسلمين وانتقلت إلى اليسار كيف تم ذلك؟
انضمامى للإخوان المسلمين في مدرسة حنتوب الثانوية، جرى وعمري 16 عاماً، وأي خيار حزبي أو أيديولوجي في مثل تلك السن لا يُعتد به، لقد كان خيارًا غلبت عليه العاطفة بأكثر مما غلب عليه الفكر، وربما لعب فيه الانتماء إلى عشيرة الترابيين الدور الأكبر، فقد كان وجودي في حنتوب مع بعض من يكبرونني من أبناء ود الترابي، أما انتقالي لليسار، فجاء عن طريق القراءة المكثفة والحوارات المطولة مع أساتذة وطلاب يساريين في حنتوب الثانوية.
– كيف كان انضمامك للفكر الجمهوري؟
بسبب القراءة في الفلسفة، التي جرت مني باجتهادٍ شخصي في السنتين الثالثة والرابعة في المرحلة الثانوية، وبسبب الانشغال بصراع الأيديولوجيات وقضايا التغيير، ملت إلى أفكار اليسار وإلى الفكر الاشتراكي، لكن عندما دخلت كلية الفنون اعترتني حالة ضاغطة من القلق والحيرة الوجودية. وبدأت أحس بأن فكر اليسار لا يستجيب لحالة الجوع الروحاني الذي أخذ يطبق علي ويقلق حياتي، وعندما قرأت فكر الأستاذ محمود محمد طه، وجدت فيه الجانبين: جانب الفكر المتحرر من قيود التفكير السلفي الذي كنت قد نفرت منه، وكذلك جانب الدعوة إلى المساواة والعدالة عبر الجمع بين الديموقراطية والاشتراكية، يضاف إلى ذلك، جذبني أكثر، بسبب حاجتي الملحة للراحة النفسية شرحه المفصل لنهج العبادة الواعية، والمعاملة المجودة كوسيلتين لتنغيم الباطن، من شأنهما أن تطفئا نيران القلق الداخلي وتذهبا الانقباض والكدر والتوتر النفسي. كل هذه الأمور، مجتمعة، هي ما جذبني إلى ساحته.
– في فترة الثلاثين عاماً، التي حكم فيها الإسلاميون السودان، تعطّلت في العاصمة الخرطوم، وحدها، أكثر من عشرين داراً للسينما ماذا تقول؟
هذا شيء طبيعي، فأي نظام ديكتاتوري قابض، خاصة الأنظمة التي ترتكز على أيديولوجيا دينية سلفية، يكون بالضرورة عدوّاً للحرية، ومن ثم للفن في كل أشكاله، اللهم إلا فنًّا يسبح بحمد السلطة. لقد كان تدمير دور السينما ردَّةً ثقافيةً وحضاريةً كبيرة.
– على الرغم من مرور 66 عاماً على استقلالنا، لا تزال بلادنا بلا متحف لحفظ أعمال كبار التشكيليين السودانيين ما رأيك؟
نحن لم يحكمنا رجال دولة قط؛ لا مدنيون ولا عسكريون، كل من حكمونا من مدنيين على قلة المدة الزمنية التي مُنحت لهم، ومن عسكريين أضاعوا علينا عقوداً طويلةً غالية، وأوصلونا إلى هذا الخراب المريع، كلاهما ليس لديهم أدنى فكرة عن كيفية بناء الدولة، جميعهم يأتون إلى السلطة بأجندة لا تتعدى الهموم الشخصية، المتعلقة بالثروة والجاه والوجاهة، فهم عبر 66 عاماً لم يستطيعوا أن يوفروا الأساسيات، كالماء والكهرباء والغذاء الضروري الذي يتناسب مع قدرات الفقراء المالية، وما أكثر هؤلاء، فكيف نتوقع منهم أن يشيدوا متاحف للفن، أو يشيدوا صالات للموسيقى أو داراً للأوبرا، أو مسارح ودور سينما بطول البلاد وعرضها؟ هؤلاء جميعهم لم يحتفوا بفن فناني بلدهم، حتى في تزيين حيطان القصر الجمهوري ومباني الدوائر الحكومية، في حين تقتني أعمال الفنانين السودانيين كبريات المتاحف والغاليرهات في أرجاء العالم، نحن شعب مبدع ظل يحكمه من ليس لهم غرضٌ في فكرٍ أو فنٍ أو ثقافة.
– هل ترى أن الفنون السودانية؛ بشقيها النخبوي والشعبي، هزمت نظام الإسلاميين في السودان؟
ربما تكون قد أسهمت، كنه، في تقديري، إسهام ضئيل فالفنون كالموسيقى، مثلاً، جرى توظيفها لمصلحة نظام الإسلاميين، ضمن مخطط الإلهاء العام. فالسيطرة الحديدية على الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون وتوظيفها لصالح أيديولوجيا الحركة الإسلامية بتلك الطريقة الفجة المنغلقة، عطل تأثير الفنون الإيجابي على الناس، وأصبحت أداةً للإلهاء. وعموماً لا تزهر الفنون إلا في طقس الحرية، من الجانب الآخر بسبب الضغوط المعيشية، ومختلف الإغراءات، تعاون كثيرٌ من الموسيقيين والمطربين، ومقدمي البرامج، مع هذا المخطط، وقد ذهبت في هذه الوجهة الدراما التلفزيونية والكوميديا الواقفة.
أما المسرح، فقد كان مُراقباً أمنياً، مراقبةً لصيقة، لكن مع ذلك، خرجت منه بعض الأعمال الناقدة، أما الفن التشكيلي فلم تستشعر سلطات الإنقاذ منه خطراً كبيراً لقلة جمهوره. ومع ذلك، فقد عملت، بصورةٍ ممنهجةٍ، على تدمير كلية الفنون التي أصبحت الآن أشبه ما تكون بالخرائب، أرجع حكم الإنقاذ عقارب ساعة الفن إلى الوراء، ولو قارنا في مجال الغناء الوطني، على سبيل المثال، ومعه شعر الغناء الوطني، مما قام بتأديته، في عقود الستينيات وبداية السبعينات، عمالقة أمثال وردي، ومحمد الأمين، والكابلي، وغيرهم، بفترة التسعينيات إضافةً للعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، لظهر لنا التراجع الكبير، الفن الذي كان له تأثيرٌ مباشر في هلهلة نظام الإنقاذ عبر سنواته الثلاثين، هو الكاريكاتير، أما في السنوات الأخيرة من عمر الإنقاذ، وخاصة بعد اشتعال الثورة في ديسمبر 2018، فقد حدث انفجار ضخم في فن الجرافيتي (الرسم على الحيطان)، لقد كان ذلك الفن واحدٌ من أقوى أذرع ثورة ديسمبر التعبيرية والتعبوية، ولقد لفت أنظار العالم بصورةٍ لافتةٍ للغاية، وقد أزعج الانقلابيين السلطويين فما أن قاموا بفض الاعتصام عمدوا إلى تلك الرسومات ومحوها ولكن، ها هي الآن تعود من جديد.
– في كتابك مهارب المبدعين ﻫﻞ ما زال ﻭﺍﻟﻤﺜﻘﻒ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ ﻫﺎﺭﺑﺎً؟ وهل الحيز الكبير الذي ناله لمحمد المهدي المجذوب في كتابك هو تقدير واعتذار مؤخر لقصور النقد الأدبي لهذا الشاعر الكبير.؟ وهل مهارب المبدعين يمثل مساءلة أو محاكمة لزمرة الهاربين، من جيل الرواد والجيل الذي تلاه.. أم يمثل محاكمة لنا نحن السودانيين أجمعين، وبلا استثناء؟
نعم لا يزال قطاع منا هارباً بقدر من المقادير، ولكن بقدرٍ أقل بكثير، فما ضغط على من سبقونا واضطرهم للهرب، كان أكبر بكثير مما نتعرض له نحن الآن، فالظروف تغيرت كثيراً والحياة أصبحت أكثر سعة وانفتاحاً، أما إعطائي ذلك الحيز الكبير للمجذوب فمرده الأول حبي الكبير له لكن أيضاً أعتقد أن المجذوب رغم أنه معروفٌ للناس مقدرٌ عندهم، إلا أنه أيضاً مجهولٌ بقدر كبير، أعني أن أبعاد شخصيته وعبقريته لا تزال تحتاج منا تسليطاً أكثر للضوء، وحتى الفصل الذي كتبته عنه في مهارب المبدعين لم يمنحني الحيز الكافي لكي أخرج فيه كلما أود قوله عن هذا الشاعر الضخم، والمفكر، والإنسان العظيم، وقد ظللت أفكر في إفراد كتاب كامل عنه وأرجو أن أوفق في إنجازه، أما فيما يتعلق بالمحاكمة فقد سبق أن قلت إن كتاب مهارب المبدعين لا يمثل محاكمة لأحد، هو فقط محاولة لفهم الظروف التي أحاطت بنا أجمعينن وأسهمت بصورة أو بأخرى في بلبلة حاضرنا.
– قلت إن صراع المركز والهامش صراع جهوي تعتمل فيه عناصر الدين والعنصر والطبقة.. أين يقف هذا الصراع من كتابك (العقل الرعوي)؟
الصراع في البنية الاجتماعية السودانية، صراعُ تتشتجر فيه كل هذه العناصر؛ الدين، والعرق، والطبقة، والجندر. وهذا ينطبق على سائر البلدان والمجتمعات، فقط نحن تسيطر علينا بنية الوعي الرعوية، بسبب أن الدولة الحديثة ثبت أركانها البريطانيون تآكلت، في وقتٍ وجيز، بسبب قصور بنية وعينا، وضمور قدرتنا على فهم ما ينبغي أن تكون عليه الدولة في السياق الحداثي، وما يقتضيه بناؤها وحراستها من التداعي، لذلك، فإن اشتجار هذه العناصر لدينا كان اقعاً في مستوى دون مستوى ما يجري في البلدان المتقدمة صناعياً، ولذلك لم يولد لدينا حالة اجتماعية أفضل، مثلما يجري في البلدان المستقرة، التي ابتعدت عن البداوة وعن حالة اللااستقرار، وعن حالة الاقتصاد الريعي، واقتصاد الكفاف.
– رفعت شعار (الكوشية) ضمن مشروعك الفكري، هل ترى أن هوية السودان اختُطفت وجرى حصرها في العروبة؟
بكل تأكيد جرى اختطاف الهوية السودانية، على الأقل، يمكن القول إن تغييباً للمكون الكوشي في مركب هويتنا قد جرى في حين أن المكون الكوشي هو المكون الأكبر الذي له من الناحية العملية في تكويننا وخصالنا ومزاجنا نصيب الأسد.
– هل يمكن القول إن الأحوال في السودان ما زالت مضطربة، نتيجة لغياب الرؤية القومية، واستمرار سطوة العقل الرعوي.
نعم، السودان الآن على حافة الهاوية، وقليلون فيه من يستشعرون خطر وقوفه على حافة الهاوية، بل إن هؤلاء الذين يستشعرون الخطر على حقيقته، ويملكون المرونة الفكرية والحس السليم، وكذلك القدرة على التضحية بالشخصي من أجل الصالح العام، ظلوا على الدوام هم المبعدون من دائرة الفعل السياسي، بل ومن دائرة التفاكر، البلاد تعاني من سيطرة أهل العقول الضعيفة، والنفوس المظلمة، وقد حدث هذا النوع من السيطرة، كثيراً في التاريخ، وما يزال يحدث هنا وهناك، وهو ما أورد بلداناً وحضاراتٍ، موارد الهلاك.
أشرت أن ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺜﻘﻒ ﺃﻥ ﻳﺤﺘﻔﻆ ﺑﻤﺴﺎﻓﺔ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ، ﻭﻣﺴﺎﻓﺔ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻌﺐ.. هل ينطبق هذا القول على الأنظمة الديمقراطية؟
نعم، ينطبق في الحالين، اللهم إلا أن يكون المثقف ناشطاً سياسياً أو منخرطاً في عضوية حزب ما، أما المثقف المستقل فعليه الاحتفاظ بمسافة تضمن له استقلاليته، فأهل السلطة سواءً في نظام ديموقراطي أو ديكتاتوري يخطبون ود المثقفين، ويعملون جاهدين عبر مختلف الأساليب لتدجينهم.
– دعيتَ إلى إعادة فحص التاريخ واستنباط هويتنا وبناء واقعنا الجديد.. ما هي رؤيتك لذلك؟
هذا سؤالٌ كبير، لا مجال لإيفائه حقه من الرد، في حيز كهذا.. فقط يمكن القول نحن بحاجة إلى إعادة فحص تاريخنا وتصحيح تصوراتنا الخاطئة له، والتعرف على المؤثرات الخارجية السالبة التي شكلت بنية وعينا بذاتنا. بهذا يمكن أن نعي هويتنا كما ينبغي وأن نقيم دولتنا المستقلة القرار، الممتلئة بذاتها، وبثقافتها، غير المستلحقة، أو المستتبعة لأحد.
– كيف تنظر الى الثقافة في ظل الثورة السودانية؟
مشكلتنا الملحة التي تواجهنا الآن هي تثبيت البلد من حالة الاضطراب الرهيبة القائمة الآن، وإعادته إلى حالة الاستقرار، فلا يمكن أن ينبع أي فعل ثقافي يستحق الذكر، في ظل دولة مضطربة، غير مستقرة. استبشرنا خيراً بإمكان حدوث نهضة ثقافية كبيرة، في بداية الفترة الانتقالية، لكن خابت آمالنا، فمن قادوا المرحلة الانتقالية في الحاضنة السياسية، وفي الوزارة، كانوا دون قامة الثورة بكثير، ولذلك ارتددنا إلى وضع أسوأ وأخطر من سابقه. نحتاج أن نعود إلى الاستقرار، قبل كل شيء.
– كيف تنظر إلى مستقبل الحداثة في السودان؟
أنظر إليه بشيء من بصيص الأمل، وبريبة كبيرة. البلاد الآن على كف عفريت، وحتى لو استقرت الأوضاع وأمكن أن تجري انتخابات، فإن اليمين التقليدي وذهنيته التي خبرناها طويلاً، سيكون هو المسيطر، عبر صندوق الاقتراع، سيحدث هذا، حتى لو كانت الانتخابات نزيهة مائة في المائة، مع سيطرة اليمين التقليدي وذهنيته العقيمة غير المنتجة، ستعاني جهود التحديث معاناة كبيرة.. التحديث أساسه بنية تحتية متينة، كما أنه يحتاج انفتاحاً واندماجاً في البنية الكوكبية المعولمة الراهنة، يمكننا من اجتذاب استثمارات ضخمة، كما يستلزم شفافيةً عاليةً في إدارة المال العام، لكن مع سيطرة اليمين سيحدث إعاقة كبيرة لكل ذلك، وتقوم الحداثة على بنيتين: إحداهما البنية التحتية المعروفة، التي يمثلها الاقتصاد بأقسامه الزراعية والصناعية والخدمية، إضافة إلى اقتصاد المعلومات، ثم بنية فوقية تمثلها الثقافة بجميع مكوناتها، لكن لن تقوم البنية الفوقية إلا على أساسٍ من بنية تحتية متينة. وعموماً تحقق نظام ديمقراطي ولو سيطر فيه اليمين يمنح الأمل في تغيير الأحوال ودفعها إلى الأمام، عبر الممارسة.
– رغم أنك فنان تشكيلي يلاحظ اختفاء الفنان لصالح الباحث والمفكر؟
أعتقد أنني أجبت عن هذا السؤال في السابق، ولكن يمكن أن أضيف أنني فعلاً ابتعدت عن الفن التشكيلي وعن الأدب، وكان من الممكن أن يكون لي في كليهما إسهامٌ مقدر.. عموماً يبدو أنني لم أعرف ما أجد فيه نفسي أكثر، إلا مؤخراً جداً، وكان هو البحث والتفكير والكتابة.
أخيراً، هل اكتمل مشروعك الفكري، أم إنه في حالة تبلور مفتوح حول مستقبل الحراك السياسي والثقافي في السودان؟
مشروعي الفكري في طفولته لأنني التفتُّ اليه مؤخراً جداً في حياتي. وكان ذلك بسبب ظروف التنقل بين القارات بسبب العمل، لثلاثة عقود. فما ينتظرني إنجازه أكبر بكثير جداً مما أنجزته.. أسأل الله الصحة والعافية حتى أستطيع تنميته فيغطي المناطق الكثيرة التي أصبحت واضحةً في تصوري وآمل في تغطيتها، قبل أن يوهن مني العظم.