عبد الحفيظ مريود يكتب: طال الكان قصير..

بدون زعل

حين انتهى عرض الافتتاح لمسرحية صامويل بيكيت الشهيرة “في انتظار غودو”، صفق الجمهور بحرارة. الكاتب المسرحي، والروائي الآيرلندي الصلد، كان يقف في ركن مظلم من المسرح، علق قائلاً على إعجاب الجمهور بالعرض، لدرجة التصفيق الحار: ” أكيد لم يفهموها”، بيكيت عتبة مهمة في مسرح اللامعقول، أو مسرح العبث، كان إسطينه يوجين يونسكو قد كتب “المغنية الصلعاء”، والمسرحية لا تتحدث عن مغنية، قط.. وليس ثمة شخصية مغنية فيها، صلعاء أو مشعرة. يضع النقاد “مسرح العبث” ضمن موجة الاحتجاج الأوروبي على الحياة الرتيبة المتكلسة، ثورة متمردة على القواعد يقودها الفن على أن تيار العبث لم يصمد كثيراً. قال كلمته ومضى، ذلك أن لكل شيء نسق منضبط. الفنون هي رائد الانضباط، بلا شك.. قد تحدث تمردات، تململات، ثورات محدودة، لكن الأمور سرعان ما تعود إلى نسقها، نصابها.
شايف كيف؟
قبل قليل، كان الجميع ينكر وجود تسوية سياسية. والجميع يقر وجودها، العسكر ينفون ذلك، ويؤكدونه.. مركزي الحرية والتغيير يفعل الشيء ذاته إلى درجة أن المتابع يقبع في ركن مظلم من المسرح، يلتفت يميناً وشمالاً، مثل سائق ركشة، شليق.. ماذا يجري؟
ثم شيئاً فشيئاً، تبدأ الأحاديث تتغير، “نعم.. للبعث ملاحظات مهمة”. “سنسقط أي تسوية مهما كانت”.. حسناً.. هناك تسوية جارية. مناوي – كرجل تسووي من اللحظة الأولى – يعلق، مبارك الفاضل، كرجل فقد بطاريته في الظلام الحالك يصرخ “التسوية تنازل فيها العسكر عن كذا وكذا وكذا.. وتنازل فيها المدنيون عن كذا وكذا وكذا”..
وذلك أمر جيد…
لماذا؟
فيما بعد سقوط الإنقاذ، أدهش الجميع مشهد اللامعقول، أو العبث في الساحة، لخصه الشاعر الفاره ود الرضي، في قصيدته ” الأهلية”، التي قدمتها فرقة عقد الجلاد:
طال الكان قصير، والعالي أتاحت
المشهد المسرحي، اللامعقول، جعل الإمام الصادق المهدي – يرحمه الله – يذهب إلى أن “البعض اتخذ من ميدان الاعتصام باروكة”، منادياً – بحزم – بضرورة هيكلة قوى إعلان الحرية والتغيير، المجلس المركزي. فالوضع كان يعطي حزب الأمة صوتا، مثله مثل البعث، الشيوعي، الناصري، الجمهوري، وشباب الدالي والمزموم. فأين المنطق؟
كيف تساوي بين الأمة القومى، وهذه الأحزاب؟ وفقاً لأي معايير؟ وبغض النظر عن الآراء الجارحة المفتقرة إلى الأدب بشأن الإمام، فإنه كان يمثل (الاعتدال والحكمة)، وسط صبينة ومراهقة وهرطقة الآخرين.
شايف كيف؟
صحونا – فجأة – والبعثيون، مثلاً، يحدثوننا عن الديمقراطية والتحول المدني، وقبل أن نفيق جيداً، يتعملق الشيوعيون، ينشرون أذرع أخطبوطية، لنصدق أن ذلك هو رأي وقرار “الشعب السوداني”. مستخدمين لجنة المعلمين، تجمع المهنين “النسخة الحسن فاروقية”، لجنة أطباء السودان المركزية، لا لقهر النساء، وجمعية أوقفوا شراب الموية..
المشهد يتفاقم ليصبح وزير الصحة أكرم علي التوم، آيقونة.. والمساس به، مساس بالشعب وتطلعاته.. ليصبح مواجهة عارية مكشوفة بين القوات النظامية والمنظمات والروابط والكيانات الهلامية، أو تلك الغارقة في عدميتها (ملوك الاشتباك، غاضبون بلا حدود).
شايف كيف؟
حين كانت جوبا محاصرة، تسعينيات القرن الماضي، وكانت الحركة الشعبية تقصفها ليل نهار، لم يذهب المواطنون إلى حيث يعسكر قرنق، بل كانوا يهرولون نحو القيادة، والتي كانت تتلظى بوابل من قرنق، الذي جاء يحررهم من “جيش ودولة المندوكورو”. وحين وقع مطرف صديق مع محمد هارون كافي اتفاقية جبال النوبة، بسويسرا، عام ٢٠٠٢م، والتي قضت بـ”حرية حركة المواطنين”، وإعادة انتشار القوات، كانت أقرب نقطة وصول للجيش السوداني، هي “إيري”، تدفق المواطنون المحبوسون “هناك” نحوها، بعضهم عارياً، تماماً.. كان النقيب ابن الاستوائية، قائد ارتكاز الجيش السوداني، يأمر عساكره بخلع كاكيهم وإلباس المتدفقين..
يعرف أهالي جوبا لماذا كانوا يهرولون إلى القيادة الاستوائية، كما يعرف مواطنو جبال النوبة، لماذا يفعلون الشيء ذاته، فيما ينبغي أن يبقوا سنداً لمن يقاتل من أجل “تحريرهم”..
شايف؟
لا يكتسب الجيش سمعته بالاحتيال على عقول البسطاء، لا يقدم شعارات جاذبة.. لكن “البسطاء” يعرفون لماذا يذهبون إلى “الحامية”، حين تكون الحياة ذاتها على مفرق طرق، وغافل من يظن أن البسطاء هؤلاء لا يدرون أن البرهان سيخلع بزته، ذات يوم ويرحل، كما فعل أسلافه: الجعلي، عبود، نميري، عمر محمد الطيب، عبد الماجد حامد خليل، سوار الدهب، فتحي أحمد علي، البشير، وغيرهم.. لكن الجيش سيظل باقياً.. وهو ليس جيش أحد.
شايف كيف؟
المعركة العبثية، مسرح اللامعقول هذا لن ينتهي بانتصار الممثلين من الدرجة الثانية، هؤلاء على الجيش، والمنظومة الأمنية، وبالتالي انهيار الدولة. ذلك أن البناء المكين للدولة، عصي على الانهيار. قد يعتريه ضعف، هشاشة، خلخلة هنا وهناك.. لكنه سيبقى وافقاً، ولو على ساق واحدة.
وإذا كان مراهقو السياسة يقطعون بالنصر، لمجرد أن مدرعة للشرطة تراجعت، أو انقلبت، فإن على أحد من ما، أن يقوم بإيقاظهم.
التسوية لن تستثني أحداً.. ذلك أمر لا مفر منه.. وحتى يحدث ذلك، لابد من رجوع الجميع إلى أحجامهم الطبيعية، لابد من خلع الباروكات.. كيف تمجد صدام حسين وتحدثنا عن الديمقراطية والتحول المدني؟ هل ما يزال مثل هذا الفصام موجوداً؟ وهل تظن أنك تمثل الشعب السوداني؟ بأي معيار ووفقاً لأي استفتاء؟ كما لو أننا لم نقرأ ولم نعرف نظام البعث العراقي الدموي الباطش، وشخصية صدام حسين أو لم نعرف ابتداع البعث لتوريث النظام الجمهوري في سوريا.. أم كيف يكون الشيوعي هو المستقبل، وأحدث سطر يستحضره هو “البيان الشيوعي” لماركس وآنجلز؟ كيف تصلح حياتنا وأنت سجين في “النظرية”؟
شايف كيف؟
إذا كان لحزب الأمة من عقلاء، بعد رحيل الصادق المهدي، فالأفضل أن يتقدموا الصفوف، وعلى الاتحادي الأصل أن يتحرك بوتيرة أسرع، فقد “طال الكان قصير”..
مع التسوية التي لا تستثني أحداً.. مهما كان.. لأن هذه بلاد الجميع، ذهاباً إلى صناديق الاقتراع.. ذلك هو كلام العقل.. وإذا كان في الأنحاء – بعد – من يعتقد أن هناك شرذمة قليلين من الإسلاميين، حكموا الشعب السوداني العظيم، الضارب في التاريخ، (صانع الأمجاد، مفجر الثورات، معلم الشعوب)، لثلاثين عاماً، ودمروا بلاده، ونهبوا ثرواته، وهو منقاد كالبعير، فإنه حتماً يسيء إلى هذا الشعب، قبل أن يسيء إلى الإسلاميين.. يجب الاعتراف بأنهم ليسو “شرذمة قليلين”، كما يجب ألا يحاول البعض “اجتثاثهم”، وذلك لمصلحة الجميع.
شايف كيف؟
لا يعتريني أدنى شك في أن ثمة “ورشة للكتابة الإبداعية” عكفت على كتابة نص هذه المسرحية. أسندت الأدوار إلى الممثلين، لكن بعضهم – من شدة تقمص الشخصية، لفرط حساسيته، أو لا مهنيته، وكلاهما سيان في المحصلة الأخيرة – خرج عن النص، وتداخل مع شخصيات أخرى، ظل المخرج يراقب، لأنه مولع بالتجريب، فيما انزوت “ورشة الكتابة الإبداعية” في ركن قصي تراقب. لتتفاجأ – بعد انتهاء العرض – بأن بعضهم يصفق، بحرارة.

 


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب