عبد الحفيظ مريود يكتب: الخرافة السوداء

بدون زعل

 

لا يعرف إلا القليل من المسلمين عقائد الشيعة الإسماعيلية، وذلك لاضطرارهم للتخفي والتستر على وجودهم، بل لا يعرفون عن عقائد الشيعة، عموماً، وغالب الفرق والتيارات الإسلامية، السنية منها، حتى.. لكن، مع ذلك، يمكن لأي أحد أن يقوم بتكفيرهم، جميعاً، بلا استثناء، أو على الأقل أن يقطع بضلالهم وزندقتهم..

أكثر الذين تعرضوا لـ”الخرافة السوداء”، هم الإسماعيليون. تم إلصاق “الحشاشين” بهم، وربط الاغتيالات السياسية بعقيدتهم وسلوكهم، عموماً.. والخرافة السوداء هي أن تعمل مراكز بشكل منظم على بث دعايات ونشر آراء عن جهة ما، جماعة ما، دولة ما، وفقاً لما تريد أن ترسخه في عقول العوام، بغرض تشويه الصورة الذهنية.. تساعد على ذلك، بالطبع، دولة وجهاز سياسي قادر على التمويل..

شايف كيف؟

تأريخياً، واجه “الزبالعة”، كفرقة وطائفة دينية في السودان، أضرار الخرافة السوداء، على أيام الدولة السنارية.. حتى أن شخصاً مثل الشيخ حمد، صاحب “حلة حمد”، قاد بنفسه حرباً ضدهم، شارك فيها العوام، لإجلائهم عن دولة السودان الوسيط، مما اضطرهم للتخفي..

على مستوى الشخصيات العامة، خضعت صورة الزبير باشا رحمة للتشويه المستمر، حتى أنه – في وقتنا الراهن – ما يزال الكثيرون يصنفونه كأكبر تاجر رقيق في السودان.. دون أن يكلف أحدهم نفسه بفحص الوثائق المتعلقة به، على أن أكبر “خرافة سوداء” كانت من نصيب الخليفة عبد الله التعايشي، وفترة حكمه.. أحد أبرز الأمثلة كانت أنه أرسل جيشاً بقيادة أمير أمراء المهدية عبد الرحمن النجومي، في حملة لغزو مصر. وكان قوام الجيش من “أبناء البحر”، أو ” أولاد البلد”، بغرض القضاء عليهم، وإضعاف تأثيراتهم المستقبلية على سيطرته.. لا يتطرق إلا الراسخون في التأريخ، إلى أن حملة ود النجومي كانت بقرار من المهدي شخصياً، وتشكيلها وقيادتها من اختياره.. وأنه رافق الحملة – مودعاً – حتى كرري، ثم رجع..

شايف كيف؟

حديثاً، برعت الإنقاذ في إنتاج الخرافة السوداء بشكل ممنهج، لا سيما في مسألة الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق، وشخصية قرنق نفسه، إلى الدرجة التي صدق فيها الكثيرون أن قرنق يملك أنياباً يمكنه أن يأكل بها جميع المندوكورو.. وأنه أقسم أن يشرب قهوته في المتمة، مما جعل الإعلام الدفاع شعبي يبدع في أنشودة “هاك من دار جعل” الحماسية.. وفي الواقع لم يأتِ قرنق على ذكر شربه للقهوة في المتمة.. دع عنك قسمه.

تعتمد “الخرافة السوداء” على قلة المعلومات، تزويرها، خلق معلومات كاذبة، نسبة أحاديث، معتقدات، آراء للشخص أو الجهة، أو الجماعة.. وقد أثبتت اتفاقية نيفاشا أن حكومة الإنقاذ لم تكن تملك أسرى حرب لتبادلهم بأسراها، الذين أبقى قرنق على حياة بعضهم عشرين عاماً، مثلاً.

شايف كيف؟

ولأن “التسوي كريج، بتلقاهو في جلدها”، كما يقول المثل الدارج، فإن الإنقاذ تتجرع مرارة تفننها في صك وتصدير الخرافات السوداء.. ذلك أنها – بعيد سقوطها – جردها الجميع من كل حسنة، بل ألصقوا بها جميع السيئات، التي فعلتها والتي لم تفعلها.. وهو جزء من اجتراع السم الذي تدأب على تجريعه الآخرين، حين تكون قادراً..

من أجمل ما قرأت – فيسبوكيا – نداءات عاجلة للثوار، بعيد سقوط الإنقاذ، لحراسة الجداريات على نفق السوق المركزي، لأن هناك حملات من “الفلول الذين يفتقرون إلى الجمال” لطمسها وتشويهها.. وقد حدث بالفعل تخريب للجداريات.. كان علي أن أتساءل: الذي يفتقر إلى الجمال هو من أنشأ نفق السوق المركزي، أليس كذلك؟ والذي يملك الإحساس هو بالجمال هو من نفذ عليه جدارية…

حسناً…

تركت الإنقاذ بيئة خصبة لعدائها: الشباب الذي ولد وترعرع وبلغ المراهقة وهي مشغولة عنه، ضامنة له في جيبها.. لأنه لم يعرف غيرها، وسيكون فخوراً بها.. لو كنت من أعدائها – ولم أكن، بالطبع – لجعلت هدفي الرئيس هو ” الاستثمار في الجهل وقلة التثقيف” الذي صنعته بيدها.. فالشباب القائم الآن يعتقد أن السودان كان دولة متطورة في كل شيء، وجاءت الإنقاذ فدمرتها..

كان هناك طرق، فدمرتها.. كان هناك منشآت نفطية، فدمرتها.. كانت هناك جامعات، فدمرتها.. كان هناك تلاحم وترابط اجتماعي وسلام حميم، فدمرته.. كان هناك كهرباء تغطي ٩٠% من السودان، مثلاً، فدمرتها.. كان هناك فائض ميزانية، فأغرقت البلاد في الديون الخارجية.. وهكذا…

شايف كيف؟

لقد ارتبكت كوارث كبرى، لا شك في ذلك.. أخطاء عظيمة.. لكن بيئة الخرافة السوداء لم تترك لها مجالاً لذكر حسنات.. إنجازات حقيقية على الأرض.. وهو غرس يدها، وركاكة المتنفذين والمنظرين لها في مجال مجالات التوثيق والإعلام وصناعة الرأي العام..

قرأت لدكتور شيوعي، مفصول من الحزب، كلاماً عن أن الثلاثين عاماً من عمر الإنقاذ، جعلت المواطن عاجزاً عن توفير لقمة العيش لنفسه، ولبيته.. لقد كنا في المقابر، إذن.. وأحياناً الله – جل شأنه – لنشهد كيف يمكننا أن نوفر لقمة العيش..

المثل الدارج يقول: (الما بتدورو، خاف فيهو الله)..

للجميع – عدا المؤتمر الوطني، بالطبع – الحق في أن يبغض الإنقاذ، ويمقتها.. فقط عليه أن يخاف الله فيما يبغض ويمقت..

أليس كذلك؟


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب