في ما أرى
عادل الباز
1
في الحلقة الأولى من هذا المقال، كنت أبحث عن المطبخ الذي يعد السياسات والآليات التي يتخذ عبرها القرار، بمَن وكيف؟. حاولت النظر لدور المؤسسات التي تساعد في اتخاذ القرار، تتبعت الدائرة الأولى وهي دائرة الأجهزة الأمنية (الاستخبارات وجهاز المخابرات العامة).. اليوم ننظر في دائرة دواوين الدولة الرسمية ووزاراتها ومؤسساتها.. لننظر اليوم في مؤسستين من أهم وأخطر المؤسسات بالدولة، هما المالية والخارجية.. ولنبدأ بوزارة المالية والمؤسسات التابعة لها.. ما هي علاقة مؤسسة الرئاسة بالقرارات التي تتخذ في المجال الاقتصادي.. وماذا يجري في وزارة الخارجية.
هل يجري التشاور حولها أو هل هناك قطاع أو مكتب يعمل على دراستها وتقديم الخيارات للرئيس، وخاصة القرارات الكبيرة.. أم إن وزارة المالية لها الحق أن تفعل ما تشاء بعيداً عن الرئاسة مهما كان حجم وخطورة القرار.
2
مثلاً، القرارات التي اتخذت في قضية التعامل مع روشتة ومطلوبات صندوق النقد الدولي، معلوم أن تلك القرارات اتخذها السيد حمدوك والبدوي وشلة المزرعة، هذه القرارات لها تداعيات اقتصادية وسياسية، هل كان للرئاسة أي وجهة نظر فيها؟. هل وضعت أي جهة أمامها أي خطط بديلة، مَن الذي أجرى الحساب السياسي لتداعيات تلك القرارات؟.. إذا كانت الحرية والتغيير لا تعرف ولا توافق على السياسات التي يتخذها البدوي وحمدوك، فإنه من باب أولى أن الرئاسة بعيدة كل البعد عن القرار الاقتصادي، باعتبار أن الاقتصاد من اختصاص الحكومة المدنية بناءً على الوثيقة الدستورية، والعسكر خارج هذه الدائرة، وأن كل ما يليهم في الجانب الاقتصادي هو حماية مؤسساتهم الاقتصادية من تغوّل المدنيين.. في هذا انصب كل جهدهم وانحصرت كل صراعاتهم.. ما كان غريباً ولافتاً للنظر أن المدنيين قد تنازلوا من حقهم في القرار الاقتصادي إلى لجنة اقتصادية برئاسة العسكر (لجنة حميدتي).!!.
الآن القرار الاقتصادي يتخذه السيد جبريل وحده لا شريك له، والرئيس البرهان لا صلة له بأي قرار اقتصادي صغير أو خطير، إذ لا يوجد في القصر مستشار اقتصادي، والشخص الوحيد الذي له علاقة بالملف الاقتصادي من هو؟، إنه السيد إبراهيم جابر، ولكنه لا يتدخل في السياسات الكلية، طبعاً هذا بافتراض أن هناك سياسات أصلاً.!!. مثلاً” إذا قررت وزارة المالية أن يستورد البنك الزراعي سماداً من إيران الموسم المقبل، فإن الرئيس البرهان سيكون آخر من يعلم، ليس هناك جهة تدرس تبعات هذا القرار بالقصر الجمهوري.. أقصد باختصار، ليس هناك جهة معتمدة وخبيرة في الشؤون الاقتصادية تدرس القرارات الكبرى وتقدم للرئيس البرهان المشورة حول القرارات التي يتخذها القطاع الاقتصادي بكل دوائره.
3
لنرَ ماذا يجري في السياسة الخارجية.. بالقصر الآن هناك دبلوماسيون يفيض بهم القصر الجمهوري، وهم يشكّلون قطاعاً دبلوماسياً مكتمل الأركان، بل هم وزارة خارجية.. على أن دبلوماسية القصر بعيدة كل البعد عن وزارة الخارجية، والقصر نفسه بعيد عن وزارة الخارجية.. فوزيرة الخارجية السابقة دكتورة مريم كانت تفعل ما تشاء بالوزارة، تعين من تعين، وتفصل من تفصل، وتسافر وقتما تسافر، لا أحد يعلم شيئاً عن سياستها ولا سفرياتها.. والسيد الرئيس البرهان يسمع فقط أنها.. وأنها قابلت ورجعت، وقد يقرأ تقريراً دبلوماسياً حول المهمة التي سافرت بصددها.
من جهة أخرى، فالرئيس البرهان ذات نفسه وجيش الدبلوماسيين بالقصر لهم سياسات خارجية أيضاً مختلفة.. ولحميدتي سياسة مغايرة تماماً، كثيراً ما يسافر الرئيس البرهان لزيارة دولة ما، ووزارة الخارجية لا تعلم عن تلك الزيارة شيئاً، وحين زار نائب الرئيس السيد حميدتي قطر، كانت سفارتنا بالدوحة لا تعلم بوجوده أصلاً إلا من خلال أجهزة الإعلام.
الدكتورة مريم الصادق شكت من أن العلاقات الخارجية مع دول الجوار الأفريقي لا تزال بيد الأجهزة الأمنية، هي التي تقرر فيها.. فوضى تضرب الخارجية والسياسة الخارجية من رأسها لقدميها، نحن مع روسيا ضد أمريكا، أم مع روسيا في القواعد العسكرية والذهب، ومع أمريكا وإسرائيل في المبادرة الإبراهيمية، مع مصر في مياه النيل وضد إثيوبيا في الفشقة ومع الإمارات في تهريب الذهب وضدها في موانئ البحر الأحمر ومع أوروبا في محاربة الهجرة وضدها في سياسات الترويكا، نحن مع فرنسا في تشاد وضدها في أفريقيا الوسطى.. هذه الفوضى التي تعم السياسة الخارجية سببها غياب مركز القرار الموحد للسياسة الخارجية، الرئيس يسبح في بحر هذه الفوضى الخارجية لأنه بلا أداة أو جهة لتخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية.
نواصل