أمدرمانية عبدالله النجيب، أو شاعـر العيون ..

 

بقلم: صـلاح شعيب

برغم أن اللقب كان قد منح للشاعر، والمغني، محمود فلاح، مؤسس، وسكرتير، اتحاد الغناء الشعبي الذي أنشئ عام 1968، إلا أن نقاد الصحافة الفنية أورثوه للنجيب في وقت كان ذلك الرائد الثقافي حيا يرزق. فشاعر العيون الذي قضى أكثر من اربعة عقود في البوستة، أصبح الآن رائدا، إذ أسس مع آخرين اتحاد شعراء الأغنية، وندوة أمدرمان الأدبية، ووظيفيا ترقى إلى مرتبة كبير وكلاء بريد أمدرمان. ما يزال النجيب بروحه الجميلة، ومودته الغامرة في كل مكان، وأكثر في منزله العامر الذي تَسبحُ في ارجائه العصافيرُ الملونة التي يَسقيها، ويطعمُها، في منزله عبر قفصِ أنيق.
تلك سيرة لا يدركها إلا المقربون من النجيب، وأصدقاؤه، الذين يزورونه في منزله الحفي بعَبَق التاريخ متى ما نشدوا أريحيته. وأنت إذ تدخل صالونه تُواجهك صورة بالأبيض والأسود لتوأم روحه صلاح مصطفى حينما كان شابا وسيما في عشريناته، وتلك صورة لهما وهما في أيام قوة توهجهما الفني في الستينات. وهناك صورة لفاطمة الحاج بشلوخها المميزة،. وفي ذلك الركن تقبع صورة للمطربة رحمة مكي، وأخرى للراحل عمر أحمد، وفضل المولى زنقار الذي ما يزال النجيب حزينا لمصرعه. كأن تلك الصور تقودُك إلى سر عشق النجيب للوسامة، والجمال، والنظام النظيف. فصالونه الأستديو يضم جهاز أسطونات ديمتري البازار التي أنتجها لسرور، وكرومة، ويبدو الجهاز كأنها صنع للتو. إنه موضوع في منضطدة مغطاءة بملاءة قطنية بيضاء. أما إذا وقع ناظرك على المسجل ماركة “الناشيونال” فكأنه هو الآخر قد صنع ساعتئذ، لامعا في سواده، وفي داخله شريط “ماكسويل”. وإن أردت الحصول على العملات القديمة التي تحمل صور كيميل سونغ، وقابوس، وطوابع البريد الموشاة بصور الملك حسين، وملكة بريطانيا، وهي تتجاوز الألف من مختلف الدول، فستجدها في صالون النجيب المتحف، زاهية وكأنها صدرت عند هذه الساعة. أما “طرادة” نميري الحمراء الشهيرة فهي مبروزة بجوار طوابع لعبد الناصر، وتيتو، ونهزر ونفرٍ من حَملةِ مِشعلِ عدم الانحياز.
وهناك في صالونه العتيق نرى صورة السيد علي والذي كان والد النجيب واحدا من خلفائه المقربين، وأيضا يُعانقُك في صالونه السرور عند مشاهدة أناتيك السوق الأفرنجي، ووشاحات التكريم، والشهادات التقديرية التي لا تحصى، ولا تعد، وغيرها من أدوات الزينة الكلاسيكية، ولا مناص من أن تلمح عضويته الفخرية التي منحتها له جمعية طب اختصاصي طب العيون. باختصار أنك الزائر لأول مرة ستجد أن الصالون المتحف قد أخذك لتتلفت يمنة، ويسرى، فلا تروي نوستالجيا العين. ولا بد أنك ستقوم من مقعدك ـ والنجيب جالس ـ لترمق من قرب لطائف هذه الذكريات التي يرجعك بعضها إلى نصف قرن من الزمان. وإن أراد أن يكرمك شاعر العيون أكثر فإنه سيدلف بك إلى غرفة أخرى ليأتي لك بصورة لزيدان إبراهيم وهو في سن السابعة عشر. أما إذا أكرمك مليا بدخول مخزن الصحف، والمجلات القديمة، فإنك ستجد الصحف القديمة. صراحة عبدالله رجب، والأخبار لرحمي محمد سليمان، والناس لمحمد مكي، وتلغراف صالح عرابي، والصحف والمجلات المصرية، والمجلات البيروتية مثل الصياد، والمستقبل، ذات الغلاف اللامع، والحريري الورق. هناك سيخرج لك النجيب الصفحة الأولى للرأي العام بتاريخ الثاني وعشرين من أكتوبر 1964، وأحداث الثورة الموؤدة تغطي مانشيتاتها. أو ربما أراك صحيفة الثورة لليوم التالي ليوم وفاة السيد عبد الرحمن، أو إذا كنت رياضيا أراك الصفحة الرياضية للأيام التي كان يشرف عليها عمر عبد التام لليوم الذي أعقب فوز السودان بكأس الأمم الأفريقية لكرة القدم. ولعل كل تلك الأرشفة تلمحها بترتيب مدهش، وعناية فائقة منه، ولا بد من وداد كذلك. إن ذلك الصالون يختصر لك معرفة شخص النجيب، وسرائره، واهتماماته، وانحيازاته الأدبية، والفنية، والرياضية لفريق عبد الخير صالح وتعبر لك عن نفسه المسكونة بالجمال، والرقة، مثلما هو شعره الغنائي الذي تدخل مفردته إلى نفسك، لسهله الممتنع:

صدقت العيون وكلام المحنة
قال لي كلمة طيبة
كانت منو حلوة
مين غيرو البيزرع أيام عمري جنة

الحقيقة ان صلاح مصطفى لم يجد دعما شعريا من شاعر آخر أكثر من دعم النجيب، أللهم إلا إذا كانت أغنية صهر النجيب مصطفى سند “بعد الغياب” تمثل أغلبية بالنسبة لأعمال الفنان الذي بدأ حياته باشمهندس في دار الهاتف. ومع صلاح بن البادية كانت الأغنية الرائعة “من بهاك..من سحرك” وكان لعبد المنعم حسيب بعضُ نصيب “عيونك كانوا في عيوني”. وكان هناك نصيب للتاج مصطفى، وعبد العزيز محمد داؤود، والعاقب محمد حسن، وعبيد الطيب، وصلاح محمد عيسى.

مع صلاح مصطفى تزاملا في البوستة كما في الغناء، والبوستة كانت في يوم من الأيام مزدانة بالمبدعين التي بدأوا حياتهم بها أمثال مؤسس جريدة الصحافة عبد الرحمن مختار، والشاعر جعفر حامد البشير. وكان أول كبار البوسطجية في بدايات النجيب، مبارك المغربي، وثانيهم محمد يوسف موسى، والنعمان على الله ثالثهم، ورابعهم إبراهيم الرشيد، وخامسهم شاعر البحر القديم الذي زوج شقيقته للنجيب، وكذلك فعل مع صديقه الشاعر محيي الدين فارس الذي تزوج صفية سند في ذات اليوم، وسكنوا جميعا في منزل واحد يربطه النفاجات. وكان المنزل يعج بزيارات مبدعين في قامة محمد أحمد المحجوب، وصلاح أحمد إبراهيم، ومنير صالح عبد القادر، ومحمد المهدي المجذوب، ومهدي محمد سعيد، ومحمد محمد علي، وأبو آمنة حامد، وكمال شانتير، والسر أحمد قدور، وعبدالرحمن الريح، ومحمد يوسف موسى وإسماعيل خورشيد، وآخرين من أكابر القوم الثقافي، والأدبي. ولكن قبل ذلك كانوا “شعراء شباب” ولم يكن أحد هناك ليعترف لهم بالإجادة في قهوة الزئبق، أو قهوة يوسف الفكي، والتي تضم سيد عبد العزيز، والعبادي، وعلي آدم ابن الخياط، وأدهم، وعتيق، والمسرحي حسن عبد المجيد، وابو الروس، وآخرين.

النجيب حكى لي مرة في حوار أجريته معه عام 1990 أنه وخورشيد تلصصوا ذات مرة، وجلسوا إلى مقربة يستمعون إلى مسامرة للعبادي، وخالد أبو الروس، وعبدالله حامد الأمين فهاج فيهما العبادي، رافعا صوته:
يا أولاد يلا أمشوا من هنا
شوفو ليكم مدرسة تلزمكم
تاني ما أشوفكم هنا
أولاد مين انتو
ولكن لا النجيب، ولا خورشيد، يعدان من هواة المدرسة، إذ كانت فقط شرافة الخلاوى مؤهلاتهما آنذاك. ما أعظمهما من مبدعين عصاميين. بيد أنه لم يلبثا إلا وكررا مشهد التلصص بعد شهر، فمحاولاتهما الحثيثة في كتابة الشعر كانت تستعر في داخلهما، والبحث عن برزخ وسط الزحام الفني منطلقهما. وهذه المرة لم يطردهما العبادي وإنما استمع إلى محاولات النجيب الباكرة في شعر المدائح. أما ابو الروس الذي كان حاضرا فقد قدم له خورشيد الصغير بعض الاسكتشات المسرحية على نسق ما يفعل يوسف وهبي، والذي كان آية ذلك المسرح قبل أن ينتهي إلى التجريبي. ولما كان أبو الروس حفيا بالبراعم شجعهما. ولكنه أصر عليهما بأن ينشغلان بالدراسة النظامية، والإتيان إلى الاستماع إلى جمعهم في أوقات الفراغ. وهكذا ظلا يأتيان لماما، ويحاولان خدمة الجالسين إلى أن شبا عن الطوق بعد أن أصغيا إلى الرواد. وأخيرا ألبسهما العبادي قفطان الشعر، ثم اعترف لهما رواد قهوة يوسف الفكي، وصارا من أعمدتها الأساسيين، بل تمدد حضورهما إلى ندوة الأربعاء التي كان يقيمها الأستاذ عبدالله حامد الأمين في داره بأمدرمان. وشيئا فشيئا تواثقت علاقتهما مع الإذاعة والمسرح والصحف، وبشعرهما السهل الممتنع وجدا مدخلا سريعا إلى دائرة الأضواء. وبعد أن تقبل الناس أعمالهما سدرا في صراع القديم والجديد، إذ حاولا تأسيس مركز لهما أكثر حداثة من الرواد. وهداهما التفكير إلى أن يخلقا لهما مكانا في سوق أمدرمان بعيدا عن العبادي، وزملائه، وجمعا كل شاب جديد من الراغبين في قرض الشعر. وبعد فترة تنامى نشاطهم، وصاروا يستقطبون الشباب المحدثين مثلهم في مقابل جماعة يوسف الفكي التليدة. ولما ذاع صيت الحداثيين ما كان من مجموعة قهوة يوسف الفكي إلا أن سخرت منهم ووصفتهم بـ”أدباتية سوق الموية”..! ولعلها سنة الخلق الفني أن تظل السخرية من الحداثة واردة بين مرحلة وأخرى، ولعله أيضا صراع الأجيال حول امتلاك المشاهد الثقافية دون الاعتراف أن لكل جيل حساسيته الفنية المغايرة، وقدرته الفائقة على التمايز، ولكن لا تبقى في خاتم المطاف إلا طبقات من الابداع تؤرخ لكل مرحلة بينما يصبح ذلك العراك الأدبي والذي يتحول إلى الشخصي إلا الذكريات المحيطة بسيوسيولجيا الناس. لا أكثر، ولا أقل.

خورشيد حكى لي مرة أنه بعد أن أتى من الأبيض كان “ينجد اللحافات” ضمن تجاربهما العملية في سوق أمدرمان المكتظ، وعاونه النجيب بدأب، وحرص، واستمتاع. وكانا في المساء يبحثان عن النغم إلى أن أصبحا من صناعه. كل فنان جديد لا بد أن يطرق بابهما كما كان الناشئة يفعلون مع صناجة النغم عبد الرحمن الريح. وحكى لي النجيب مرة عن عظمة صاحب “يا مداعب الغصن الرطيب” في نهاية الأربعينات والخمسينات، إذ قال إن كبار الفنانين يأتون إلى منزل ود الريح عند العصر، ويجلس كل واحد منهم في فضاء المنزل إلى أن يأتي دوره ليدخل إلى عبد الرحمن الريح حتى يُحفظه اللحن في غرفته، ثم يخرج فيأتي آخر، وهكذا إلى يكمل الاستاذ ألحانه. وأضاف النجيب أن ذلك المنظر يذكره بمنظر الفكي الذي تأتي إليه النساء بـ”البسكلة” وتدخل الواحدة تلو الأخرى لتحظى بالبخرات والمحاية.
كانت تلك سطوة عبد الرحمن الريح في مشهد الخمسينات الغنائي والذي قاله عنه النجيب إنه أعظم أسطورة خلقتها أمدرمان. وتذكر أيها القارئ الكريم أن من الذين كانوا يأخذون محاية ود الريح: إبراهيم عوض، التاج مصطفى، الجابري، سيد خليفة، صلاح محمد عيسى، محجوب عثمان، وحسن عطية، فتأمل. وأصدقاء النجيب الذين زاملوه لم يبق أحد غير جاره محمد علي أبو قطاطي، أما محجوب سراج فباع بيته في الثورة “الحارة 18” بعد أن ألمت به المحن، وطفق نحو الحارة 55. كان من جيرانه الراحلين خورشيد، وأحمد زاهر، وسند، وعلاء الدين حمزة، ومحيي الدين فارس، ومحجوب عثمان، والمطرب الطيب مهران الذي سجل عددا من الأغاني للإذاعة، ولا يعرفه الآن أحد. وهؤلاء كلهم أدخلني النجيب إلى منازلهم، وتوثقت علاقتي بهم، وأجريت معهم عشرات الحوارات الصحفية المليئة بالطرائف والمفارقات.

نعم، كان عبدالله النجيب “حكايات أمدرمانية مثمرة” لم يحدها مجال الفن وحده. فهو أحد ظرفاء المدينة الذين تجري الطرفة في لسانه كل لحظة. أو قل إنه الفنجري الذي لا مثيل له وسط مجاييليه. حين يحكي لك عن إبداع أمدرمان الذي عايشه لحظة بلحظة لاحترت في ذاكرته الفوتغرافية. لو أن حدثك عن جغرافيا سوق أمدرمان لظنيته أنه هو الذي خططه، أما لو حدثك ابن “ود درو” عن الحدود بين أحياء برمبل، والرباطاب، والمسالمة، والعرضة، وحي العرب، فتخال أن لا أحد خلافه يعرف تفاصيل حدود هذه الأحياء، والتي لا يدرك كثير ممن ولدوا فيها أين تبدأ، وأين تنتهي. فالنجيب يحدد نهاية الأزقة بأسماء أصحاب البيوت، ويزيدك شارعا، شارعا، ويضيف إليك “كناتين” اليمانية آنذاك.
وعودة لعبد الرحمن الريح الذي زامله، وصادقه، بعد أن اعترف له العبادي، وأبو الروس بالإجادة يقول النجيب إن ود الريح يمثل أبدع أسطورة في أمدرمان، كونه كان يمتهن من عرق يده في نسج المحافظ في النهار، وفي الليل ينتج بأيديه النغم ليفرح السودان. ولقد ظل يتحسر كثيرا أن أبناء أمدرمان كرموا رهطا من مبدعي المدينة. ولكنهم تركوا ود الريح بلا منزل حتى وجد نفسه بعيدا عن الحي الذي نشأ فيه، ومنحه الصيت، إذ لا يذكر حي العرب إلا وكان صاحب إنصاف، والملهمة، وهيجتي الذكرى، عنصرا أساسيا من جينات نشأته. النجيب أيضا عرف بسبق الآخرين إلى مقابر البكري حين يدرك أن شخصا أمدرمانيا قد فارق الحياة، وفي بيت العزاء لا يكتفي بقراءة الفاتحة التي يبذلها، وإنما يجلس يوميا في فراش العزاء حتى يرفع بالفاتحة، وختم القرآن. وما أقسى فقده لصهره، مصطفى سند، الذي لم يكن هناك شخص مثله، قريبا منه يوفيه بأسراره. وقد قال إن وفاة سند جعلت دموعه تتحول دما. أما يوم وفاة عديله محيي الدين فارس فقد بكى النجيب بكاء مرا، وهكذا ظل النجيب يبكي لفقد كثير من أصدقائه، وزملائه، الذين تركوه حزينا، وقد تجاوز الثمانين وما يزال شابا بروحه الوديعة، وأللهم زد في عمره، وبارك له في وجوده النبيل بيننا.

 


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب