عبدالعال السيد .. الدنيا ليل .. غربة ومطر

إبراهيم أحمد الحسن
ما زادته الغربة إلا رهفاً، وعندما يسدل الليل سدوفه ويصحب ذياك الإظلام الكلي حبات غلاظ من مطر عينة الخرصان الصاخب، وعندما يضرم البرق نيرانه الحمراء في سويداء البَرَدْ الأبيض فلا أحد غيره يصور المشهد مثلما فعل، لا أحد غيره عبدالعال السيد يمسك ريشته ويرسم لوحة ناطقة تنضح عن حسن أوله شوق ومنتصفه غرق في الريدة شفيف فهو كما هو دائماً (لا ينابيع ريدي جفت / لا ولا أشواقي خفت)، وآخره انعتاق من الحزن، وقبيل التوقيع على اللوحة بأحرفه الأولى يعود ليقول: (كل الدنيا عرفت الدنيا ليل غربة ومطر)، ذاك هو الشفيف عبد العال السيد، من الساحل والصحراء جاء عبدالعال السيد، وكان مرتعه بين ضفاف النيل والصحراء الكبرى.. جاء عبد العال السيد إلى إيقاع “البندر” مسربلاً برائحة زهر البرسيم المعطون بندى الجروف يتنفس ملء رئتيه همبريب الضفاف، جاء من صحاري السودان المهيبة، كرف من عبق صحراء بيضوضة وصنو روحها العتمور وقد (شحنته بالحرارات الشموس) وكأن صلاح أحمد إبراهيم قد كان يقصده وهو ينسج قصيدة (مريا) وهو في قمة الألب جالس، جاء عبدالعال إلى محيط الجامعة الهادر، بوجدان مرهف وقلب شفيف يشتد وجيبه، يخفق عند كل آية من الجمال لا يأتيه إلا حافيٍحاسر فيعتكف في محرابه ينشد، وجد القلب الشفيف ذاته وسط عمالقة الشعر والجامعة التيجانين سعيد وحاج موسى فأطرق يستمع للأول في لحظة مرت كالظلال فعبرت رؤاه إحساس عميق فغنى معه (زمان الفرقة والتجريح بسيبو عشان تشيلو الريح)، وحضر مع حاج موسى نسج قصيدته (مسامحك وما عشان عينيك../ عشان تتعلم الغفران../ وتصفح لو زمن جار بيك)، وعلى الضفة الأخرى من الجامعة كان سعد الدين إبراهيم في نول الشعر ينسج حروف للعزيزة يقول فيها: (المواعيد لسه حزنانة .. بتنادي)، ومعه عزمي أحمد خليل يغني (قسمة غايتو أعيش بدونها)، ثم (ولو دا الحصاد من كل ريد ناس قيس صحيح اتجننوا)، وبين التجانيين وعزمي وسعد تحكر محمد نجيب محمد علي يغني لـ(عصفورة الفرح الضاحك) وبشرى سليمان يندب حظ (الوعد المستحيل)، ثم جلس وسط أبناء جيله والشعراء عبد الوهاب هلاوي ومختار دفع الله وعبد الرحمن مكاوي هنا تشكلت ذائقة عبدالعال الشعرية وسط عقل جمعي من الإبداع اتحد مع جيناته وتفاعل مع ما حمله معه من مسقط رأسه من نيل ونبل من جروف وحروف، صحراء ورمال وشموس، ثم أقمار الصيف كل ذلك هو الذي عجن عود الشعر عند عبدالعال ومعه عجن في صحن (غربة ووطن) الليل والمطر والغربة هو ما لا يشبه شيء غير اجتماع الطين والأظافر عند محي الدين فارس، حين استل فارس ليل المنافي من بساط ريح تمتطي جواداً جامحاً ليقول مثل هذا الشعر: (وقابلة الليل قد حاصرتها / يدُ الريح.. في الظلمة الممطرة / وحدَّثتُ عرافة الغاب.. أين طقوس الولادة..؟).. يخرج عبدالعال من ضيق الليل والغربة والمطر إلى براح عريض يحلق فيه وحده، ويأتي إلى العزيز يقف عند بابه ويقول: (أفرد جناحك ضمني!!) وعندما يستبد به الشوق مداه يفرد جناح الشوق طوع انفراجه، ثم يقبض ليضمه، يبقى عبدالعال على هذا الحال غارقاً في لجة حزن دافق يعبر عنه بجملة صامتة: (زى حزني اللي كاتمو معاي صبابة)، يعبر عن الليل والغربة والمطر بالحزن والصبابة يحاول الخروج فيأتيه الشعر في رابعة نهار الحزن عنده بـ( واعصر سلافة الليل حزن)، يحاول الخروج ولكن الذي يأتيه ليس سوى كلام حزين يصفه في (موال على درب النخيل) يقول فيه: (بيني ما بينك معاني/ وكلام حزين يا عمري ما سووه في كتب الأغاني)، درب النخيل يقود عبدالعال إلى أن يضيف للغربة والليل والمطر (عقاب شتاء) فيزيد الشتاء طين المطر بلة، ويضيف ذات الدرب إلى حزمة المآسي “طرب حزين وجع تقاسيم الوتر” وفوق ذلك يأتي السفر ليكمل تراجيدياً الحزن عنده وتبلغ المأساة ذروتها عند مجئ العيد بأحزانه في الغربة (الناس تصابح العيد / وأنا بالحزن موعود / سديت دروب الريح / راجي الليالي تعود)، ثم بعد أن عز المزار يأتيه الشوق حزين لا يجد ما يسد رمقه من شيء سوى حزن المواويل (الشوق شرب حزن المواويل وانجر خاطر النهار)، ولا يسلمه المزار بعد أن تأبى إلا لأطياف أخريات الليل تمر و(تملأ البراحات للحزين طول العمر).
ينعتق عبدالعال من لجة حزنٍ تكالبت فيها عليه أحد عشر كوكباً من عتاة مثيرات نقع الحزن، فكانت الغربة والليل والمطر، وعقاب شتاء وطرب حزين ووجع تقاسيم الوتر، صبابة وسفر، ثم صباح العيد، وحزن المواويل وأطياف أخريات الليل، أحد عشر كوكباً من ملهمات الشعر الحزين لبدت سماوات عبدالعال بغلالة لم تحجب عنه مظان الجمال، فأبصر الحُسن عبرها، فكانت افتقدتك التي دوزن لحنها الأول إسماعيل حسب الدائم، وأعاد رونقها من جديد حسين الصادق، ثم لم يلبث أن أتى عبدالعال معترفاً بأنه (لما أشوفك بنشرح) التي غنى كلماتها إسماعيل حسب الدائم وأعاد ضبط إيقاعها على طبقات صوته الشجي أحمد الصادق، ومضى عبدالعال يقول: (كلما سألت عليك يقولو مشغولة) والتي غناها في الزمان الفات وهسه ويغنيها غداً بذات الإحساس الرائع القامة كمال ترباس، وما زال الناس مشغولين الحابل بالكلمات الشفيفة والنابل بالطرب الأصيل حتى كانت عند ترباس (حبان قسايا نسوا)، وعندما وجد عبدالعال أن (هذا المشترك لا يمكن الوصول اليه) كتب: (دقيت ليهو ما ردّ) وغناها طه سليمان، ثم بريدك يلا غني معاي و(كلمني حدد موقفك)، أيضاً غناها طه سليمان، وطفق عبدالعال يقرض الشعر فغنت له إنصاف فتحي (زيتوني) ثم أفراح عصام التي غنت له: (لا صوت لا صدى)، أما القامة أبوعركي البخيت، فقد تغنى له بـ(أقيفي أرجيني يا ريدتي)، والطيب مدثر غنى (ما تسألوا عني)، سقاي الورد كانت من نصيب مكارم بشير، ولو ظللت أحسب أغانيه وأشعاره لوصلت الرقم أربعة بعد الخمسين، ولم يزل حبل إبداعه عبدالعال على الجرار، أما أكبر أشعاره قيمة ومقاماً، فقد كانت تلك التي نسجها لأبيه وكل أب فأفرغ فيها كل ما تشربه من دفء وحنان عاشه في كنف والده فكانت (أبوي) صنواً لإليازة حنين الأمهات (زينوبة السر عثمان الطيب) وقمة الوفاء بأحق الناس (أمي الله يسلمك لـ(التجاني حاج موسى)، فهدهد عبدالعال والده وكل والد على كفوف الراحة حين قال له: (حنين كلك سماحة وفال / وفيك مهابة الأبطال / والقلب الكبير يا يابا / فيهو براءة الأطفال). قام ترباس بوضع لحنها وغناها جنباً إلى جنب مع (أمي الله يسلمك).
يحاول عبدالعال السيد مع هذا العطاء الباذخ أن يثقب غلالة حزنه المسربل بالغربة والليل والمطر، ينعتق وينفك منها بقولٍ فصل لملم فيه التفاؤل من أطرافه كلها حين قال: (الربيع لو زار خلي يغشاني/ موسم الأزهار خايفو ينساني)، وها أنا أغشى سيرته وأخشى أن أكون قد نسيت شيئاً من موسم أزهار عبد العال السيد، فإن حصل جددوا لي العذر وقولوا له لك العتبى حتى ترضى.