عبدالحفيظ مريود يكتب: الوحشة المأهولة

بدون زعل

ذاك المساء، في مطعم ومقهى “السلطانة” بشارع الجزار، الرياض، بالخرطوم، كانت الإضاءة تبرز الفرحة على وجهها. بدت ملامحها الجميلة متصالحة، ودودة. عيناها تبرقان، يشع منهما حنين غامض إلى شيء مجهول. فيما ننتظر النادل ليحضر طلباتنا على العشاء، تصدح موسيقى شرقية توقد قناديل منطفئة في مجاهل روحها.. شعرها مشدود إلى الوراء، مثبت – جيداً – بمشبك الشعر. تمسده بكفها، تنظر إلى “هل تعرف كم رجلاً غير سوداني دخلت معه في علاقة؟”. قلت “غير المصري، ذاك الذي قرر أن يتزوجك؟”. ضحكت، وقالت “نعم”. قلت “لا أعرف، طبعاً.. كم عددهم؟”. منشرحة، تبسط يديها على الطاولة، بيننا، وتحسب على أصابعها:” الإماراتي، في الحقيقة: الإماراتيان، الأردني، التونسي، الجزائريان، الكيني، الخواجة، السعودىي.. أممممم حوالي عشرة”… قلت “هذا رقم معتبر.. لعلاقاتك مع غير السودانيين”.. ستشرح لي، فيما أسرح في التأثيث، إعادة تأثيث العلاقة هذه، بناء على المعطيات الجديدة، والتي ستطرأ. “بعضها لا يدوم أسبوعاً.. بعضها أقل من ذلك.. بعضهم نسيت، بل لم أحفظ أسماءهم”..
حسناً.. يقطعنا النادل، يضع الطلبات، أراقب الطريقة التي يرتب بها الطاولة.. أتابع بعض الأجانب الداخلين والخارجين.. الفتيات السودانيات المصطنعات اللائي يستعرن شخصيات، نمط حياة، وضعيات اجتماعية، يدخلن بها إلى هنا، والأخريات الحقيقيات.. أحاول أن أعرف أيهن حقيقية، وأيهن مصطنعة.. سنأكل، خائضين في مواضيع شتى، فيما ذهني يعيد التأثيث.
شايف كيف؟
في الخلافات الممتدة بيننا.. عدم قدرتي على البقاء متصلاً، متواصلاً، حسب الجدول الذي حددته هي، تقرر جملة شديدة الخطورة، مفتاحية: “يعني شنو لو ما ضربت لي صباح ومسا؟ ح أموت؟ بفتش لي صورة من صوري الكتار ديل، برفعها على الفيسبوك.. وأقعد أحصد الإعجابات والتعليقات والإطراءات.. برفع معنوياتي.. شنو يعني مريود ما مهتم بي؟”…
شايف؟
جنى مارك، مؤسس الفيسبوك خمسين مليار دولار في البورصة.. وذلك لسبب بسيط، يشير إليه زيجمونت باومان، البروفسير، أستاذ علم الاجتماع البولندي، في جامعة ليدز، المشغول بما بعد الحداثة “لأن مارك استغل خوفنا من الوحدة.. خوف الناس من الهجران هو منجم الذهب الذي وضع مارك إصبعه عليه.. الفيسبوك هو الطريقة الوحيدة للبقاء متصلين، حتى ولو كنا وحيدين”..
باومان متعمق في تحليل هشاشة الروابط الإنسانية الحديثة وتأقيتها، وهو السبب الذي يجعل حالات الطلاق وإنهاء العلاقات أكثر شيوعاً مما مضى (يتمحور قلق الناس اليوم، قبل الدخول في علاقات ملزمة، حول كيفية الخروج منها).. وذلك بسبب وجود خيار آخر، دائماً.. وليس بالضرورة هو الأفضل.. نسعى لامتلاك الكيكة، وأكلها، في ذات الوقت.. وطالما نحن مع هذا الخيار، نحدق إليه، سيكون الخيار الآخر في خطر، دائماً، وعلينا أن نأخذ كليهما..
شايف كيف؟
أعود إليها.. مشغولاً بالتحولات التي تطلق عليها “علاقات”.. تصنفها إلى علاقات عابرة، وعلاقات وضعت علامة في قلبها.. أسألها، والعصير بيننا، والنادل يفرغ المائدة من بقايا عشائنا “كم عدد العلاقات الحقيقية التي وضعت علامات على قلبك؟”.. تلمع عيناها، يمكنني أن ألحظ طيفاً من حسرة ناحلة اللون، متحولة إلى غصة “ثلاثة.. اثنان، وأنت ثالثهم”.. أفكر في الرابع الذي سيخلفني، فالخامس.. أي زهو من المفترض أن يتملكني، فيما سأصبح رقماً، عما قليل. هل سنكمل عامنا هذا؟ يملؤني الشك.
شايف كيف؟
ثمة افتراضات مجحفة، أن تفترض أن الآخر ينشد الاستقرار، الالتزام، ويمثل سكينتك التي تبحث عنها، في الوقت الذي تضع نفسك في موضع سكينته. ينظر باومان إلى الهدر المستمر للخيارات بحسرة.. لم يعد العالم الإنساني راغباً في ترميم العلاقات والصبر على بنائها، يتملكه شغف مسعور ورغبة ملعونة في الهرب أماما، ظناً أنه سيحصل على ما يريد.. لكن يظل النقص هو الصفة البشرية الأولى.. ليس ثمة من بشر كامل..
يواصل “الفيسبوك يمكنك من التأكد من أنك ستجد، دائماً، شخصاً مستعداً لاستقبال رسائلك والرد عليها”.. يجعلك ترفع صورة من صورك – كما قالت الجميلة – للشعور بمزاج أفضل.. تحصل على الإطراء والتعليقات وتحفل بالمعجبين والمتابعين.. لكنه لا ينفي وحشتك.. لن يكون بديلاً لوحدتك القاتلة المذلة في العالم الواقعي.. تحتاج إلى من هو أقرب إليك منك..
شايف؟
نشرب قهوتنا على النيل.. نتبادل أحاديث عادية جداً.. كما يفعل الكثيرون.. ومثلهم – أيضاً – يفكر كل واحد منا في الخيارات القادمة.. يبدو أننا، جميعاً، عابرون في كلام عابر..
يا للهول..