بدون زعل
حين مد “كرام المواطنين” أرجلهم، أرجعوا عمائمهم إلى الوراء، وأصدروا بيانهم ضد ثورة اللواء الأبيض، والبطل علي عبد اللطيف، كانوا يعلمون أن مافى جيبوهم، وما تحت أيديهم مما أفاء به الله عليهم، والإنجليز، ليس محلاً للتنازل، والمنازعة.. تقتضي علاقات القوة والمصالح المتقاطعة، أن يجري التعامل مع اللواء الأبيض، والبطل علي عبد اللطيف، كمهددات أمنية. لذلك قال للإنجليز: إن هؤلاء لا يمثلون الشعب السوداني.. لا قبائل لهم.. والإنجليز يعرفون أن القوى الحديثة تحتاج أكثر من مائتى عام، لتتشكل، لتأخذ زمام المبادرة، وتفعل فعلها في التأريخ.
شايف كيف؟
والبروف حسن مكي يحرقه شيء ما، تجاه حسن الترابي شيء يجعله لا يجيد الحديث عن شيء إلا ويأتي على ذكر الرجل، في مكتبه مديراً لجامعة أفريقيا العالمية، كان يحدثنا – فريق إنتاج فيلم “السودان جدل الهوية والجغرافيا”، لقناة الجزيرة – عن كيف تشكلت القبائل السودانية، عرج على حسن الترابي، دون سبب.. قال إنه شخص ذكي، استراتيجي، ولكن تغيب عنه الجزئيات.. انخلع أحمد الشيخ الأردني، رئيس تحرير أخبار الجزيرة، والقادم إليها من البي. بي. سي، بلندن “كيف يكون استراتيجياً، وتغيب عنه التفاصيل والجزيئات؟ هذا تناقض”.. نظر يميناً ويساراً في دهشة، تاركاً بروف حسن مكي يتخبط في التبرير والشرح، الاستراتيجي لا تغيب عنه الجزيئات.
شايف؟
ولأنه استراتيجي، فإن القطيعة بينه – كقوى حديثة ناشئة – وبين البنية التقليدية للمجتمع، كرام الناس”، لم تكن واردة، بل كان يتوجب إيجاد صيغة مثلى لتزويجهما، لصنع تعاشق بينهما، لن يكون من السهل فصم عراه، حتى ليخيل إليك أنهما كانا كذلك، منذ أن خلق الله الجميع.
هل يمكنك، بالساهل، أن تتجاوز الإدارات الأهلية؟ الطرق الصوفية؟ النظام القبلي والعشائري للمجتمع، وتنشئ بنية حديثة صرفة، موازية لها؟ من أصحاب البناطلين والبدل الأفرنجية؟
سألت ناشطاً حزبياً شاباً: بأي لغة وأطر مفاهيمية ستوصل “فحوى الثورة وتطلعاتها”، إلى البني جرار، الزيادية، الميدوب، بطون الهدندوة، عرب السليم، الصبحة، والجمجم والبرون، وأنت لا تعرفهم، أساساً؟ لتقنعني بك، يجب أن تكون قادراً على معرفتي: نظام حياتي، تطلعاتي، أحلامي، مشاكلي الصغيرة..
شايف كيف؟
آليات صنع التغيير تحتاج نظراً شاملاً، منظاراً أوسع، وقدرة على النزول إلى مستوى الوعي والكسب الشعبي والمجتمعي، لا يستطيع أحد أن يزعم أن الجموع التي تخرج لاستقبال محمد طاهر إيلا، في شرق السودان مدفوعة الأجر.. ولا “مخمومة”.. ثمة شيء ما، أخرجها.. يمكن للناشط السياسي أن يعده: جهلاً، تضليلاً، تغييباً، أيما يخطر له على بال، ليريح عقله الكسول وأدواته الدكماء.. لكنه شيء أبعد من ذلك..
فهو عجز عبد الخالق محجوب، وصفوة المثقفين الماركسيين في إقناع مزارعي الجزيرة وعمال المنطقة الصناعية، ومطلق الشغيلة، بأنهم إنما يناضلون لأجلهم..
وهكذا…
ستكون الثورة، الخارجة من رحم القوى الحديثة، فارهة لو أنها جلست على الأرض، فهمت علاقات المجتمع وأنظمة عمله، تداخلت معها لتحدث انقلاباً مفاهيمياً، أو حتى نقلات محدودة.. ذلك أن الشيء الذي وضع اللواء الأبيض في كتب التأريخ، فحسب.. محبوسة لتقرأ ضمن مناهج الدراسة، عاجزة عن التغلغل، أبعد، هو أنها
حاولت إحداث القطيعة دون تدبر.. أرادت أن تقفز، أو أن تقضم لقمة أكبر من فمها.. فهزمتها التعقيدات الاجتماعية وعلاقات القوة، قبل أن يهزمها الإنجليز..
شايف كيف؟
وهي ذات العلاقات المتينة التي تحشد لمحمد طاهر إيلا، وتحشد لغيره..
ثورة الوعي تحتاج وعياً، أعتقد.
