عبد الحفيظ مريود: مطر الحزن عاود هطل

بدون زعل

طلبت ذات برنامج تلفزيوني، والفرقة تجرى بروفات سريعة، إلى محمود تاور أن يغني – ضمن ما سيغنيه – أغنية ” لما شفتك”، وهو نادراً ما يقوم بذلك، رفض بلطف، ومودة “الأغنية دي بناها المنصوري على تمانية كمنجات، وإنت شايف الفرقة براك.. قلتو نجيب فرقة محدودة.. هسي ديل تلاتة كمنجات بس.. لكن نحاول نبرفا، عشانك”..
سعدت، طبعاً.. بدأت الفرقة تعزف، تقدمت قليلاً، فارتبكت.. التفت إلي ” شايف؟ قلت ليك اللحن دا صعب”.. عذرته، مع محبتي القاتلة للأغنية، محمد آدم المنصوري ملحن عظيم، فخم البناء، شاهقه، تشكل ألحانه – إلى جانب ألحان العظماء – “مانهاتن الغناء السوداني”.. ودي فلهمة مني ساي، طبعاً.. مفروض أقول “ناطحات سحاب الغناء السوداني”، لكن “لاباس”، كما يقول المغاربة.. قليل من الفلهمة قد “يحرر سوق” رجل خمسيني “جالس”، كما يقولون..
شايف كيف؟
الأغنية فردوس من الحنان الدافئ، ولطالما قتلني الحنان. كن حنيناً فقط، كوني حنينة، فحسب، وسأرابط أمام دارك.. إذا كانت قيود المتنبئ الإحسان:
وقيدت نفسي في ذراك محبة*
ومن وجد الإحسان قيداً، تقيداً
فإن قيودي هي الحنان. ينبعث دافئاً من العينين، من اللهفة عليك، من اليدين الخشنتين، الناعمتين، لا فرق. فالحنان بهو المحبة الفسيح. المحبة التي تسامت على التطلب والانشغال بالكسوب المحسوسة.. لذلك تغدق عليك الخالات، العمات، الشقيقات الكبريات نعناع الحنان المترفع عن الغرض، حين يجلسنك في بهو المحبة، ذاك..
شايف كيف؟
المنصوري التقط العمق ذاك، الذي غرق فيه الشاعر، وهو بعيد عن دياره، لا تطؤها قدماه، لا يتنسم روائح بيوتها وناسها “شفت ناسنا، ودار أهلنا، والنخيل التمرو شايل”، يا إلهي.. ذاك يقتضي أن تغوص عميقا في المياه الزرقاء اللانهائية لروح الشاعر، لتقيم بناء موازياً له.. يتشرب وجيب التجربة الأصلية.. فعل ذلك السني الضوي في رائعة سراج ” لو بتفتكر الليالي تداوي غلبي”.. الكابلي في ” ضنين الوعد”، وردي في “مرحباً يا شوق”، “خوفي منك”، عركي في “لا المراكب قادرة تكسح في النزيف”، الهادي الجبل في “المدينة”، مثلاً.. ابن البادية في “من كلام عينيك وسحرك ومن بهاك”، مثلاً، مثلاً، يعني.. أقول الغنا السمح كلللللو يعني، وللا شنو؟
شايف كيف؟
دي ونسة دايرة موسى حامد، قطعاً.. أو العماس، وكلاهما: وهميان، مأفونان، غارقان في شبر ماء.. أو عبد اللطيف مجتبى، ذات ليلة حاسرة الرأس.. زهير حسن أحمد، في مأمورية شتوية، في الأبيض، والزلابية تصدر صوتها الملتاع وهي تلامس زيتاً لاهباً..
شايف كيف؟
هل أنت حنين بما يكفي لتبكي ساعتين، فأكثر لموت قطة عاشت معك أعواماً قليلة، شهوراً، أسابيع؟ من أين تأتي بالدموع تلك؟
هل أنت حنينة لتقلقي على رجل لا تعرفينه، على طريق سريع، وراء زجاج النافذة المبلل، والمطر يرزم في الخارج، والسيارة/ القطار/ البص ينهب الطريق، فيما هو يسير تحت المطر، متلفعاً بأسماله، وقد لمحته لثوانٍ معدودة، فيما القطار مسرع؟ كم من الوقت يمكنك أن تشغلي بالك عليه؟
ذلك هو محك الحنية.. محك الحنان.. محك ما ستقدمينه من نعناع ساخن، في بهو المحبة الفسيح، ما تقومين بمسحه من قشطة المودة، على أرغفة القلب، والروح..


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب