النيل الأزرق.. وثيقة صلح مستدام

النذير إبراهيم العاقب
* ناشدت آلية السلم وحل النزاعات وإرجاع النازحين والمتضررين الخاصة بإقليم النيل الأزرق، في اجتماعها الجمعة الماضية، الأحزاب السياسية وقوى الثورة ومنظمات المجتمع المدني للوقوف مع النازحين والمتضررين من الأحداث التي شهدها الإقليم مؤخراً، والعمل لجهة تحقيق الاستقرار وتعزيز السلم الأهلي والمجتمعي في الإقليم، وشددت على أهمية معاقبة كل المتورطين في الأحداث الدامية منعاً لتكررها مستقبلاً في ولايات أخرى.
وطالبت الجهات العدلية والقانونية للقيام بدورها في القبض على الجناة وتحقيق العدالة ورد المظالم إلى أهلها، ولفتت الآلية إلى استعدادها للتعاون مع كل الجهات الرسمية والشعبية لضمان السلم الأهلي والمجتمعي في الإقليم، ودعت منظمات المجتمع المدني للمشاركة في مساعدة المتضررين من الأحداث والوقوف بجانب الجرحى والمصابين في المستشفيات ودعمهم اجتماعياً وصحياً ونفسياً، وذكرت أن الآلية تعمل بالتنسيق مع حكومة إقليم النيل الأزرق للمساهمة في إرجاع النازحين من ولايات سنار والجزيرة والنيل الأبيض، ودعت حكومات الولايات لدعم عمليات عودة هؤلاء النازحين لمناطقهم بالنيل الأزرق.
وتأتي الأهمية القصوى لتسريع الخطى لإيجاد حلول ناجعة للأزمة الأخيرة التي شهدها إقليم النيل الأزرق وراح ضحيتها أكثر من مائتي قتيل، وأكثر من خمسمائة جريح، فضلاً عن الدمار الكبير الذي أعقب تلك الأحداث، سواء تمثل في تشريد أكثر من مئات الآلاف من المواطنين، وحرق ونهب أكثر من أربعة آلاف منزل.
ولعل آلية السلم وحل النزاعات وإرجاع النازحين والمتضررين، إن كانت بالفعل تسعى لحل هذه المعضلة، فعليها اتباع العديد من الخطوات الجادة والتي تتمثل في أهمية الاستهداء بنص المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة لفض النزاعات، والتي تنص على أنه، (يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن للخطر أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجأوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها)، الأمر الذي يحتم على الآلية دعوة أطراف النزاع كافة إلى أن يسووا ما بينهم من النزاع بتلك الطرق، ومن ثم فحص أسباب النزاع الذي أدي إلى هذا الاحتكاك العنيف ومن ثم أثار نزاعاً دامياً أفضى لتلك الخسائر البشرية والمادية الفادحة، ومن بعدها تقرر الآلية ما إذا كان استمرار هذا النزاع أو الموقف من شأنه أن يعرض للخطر حفظ السلم والأمن في المنطقة المعنية بحل النزاع.
وبما أن مفهوم حل النزاع يشير إلى العمل الهادف للتوصّل لاتفاق يُرضي طرفي النزاع بصورة سلمية قبل اشتداد الخلاف وطرحه كقضية يحكمها القانون، وسواء كانت هذه العملية مقتصرةً على المتنازعين أنفسهم، أو تدخّل فيها أطراف آخرون كوسطاء، هنا، يبقى حل النزاع خطوة استباقية بديلة عن التحكيم القانوني تُجنّب المتنازعين التكاليف وأوقات الانتظار الطويل، فضلاً عن أن المنطلقات الأساسية للمعالجة البنّاءة للنزاعات تتطلب وجود العديد من المبادئ والمنطلقات الأساسية الواجب إدراكها عند حل النزاعات، والتي تبدأ من أهمية الاستماع للمتنازعين وفهمها، ولا شك أن الإصغاء بعناية يؤدي بالأطراف المتنازعة للتعاطي مع النزاع بشكل أفضل، لاسيما أنّ حل النزاعات يعتمد على استيعاب المشاعر والأفكار الخاصة بالقضية، وإدراك الوجه الإيجابي للنزاع، من منطلق أن النزاع بطبيعته هو محاولة للتغيير، بحكم أنّ هناك شيء غير صحيح قد أفضى إليه، ومن خلال فهم الآلية ذلك، ومحاولة استغلال هذه الفرصة السانحة، تمكّن من الدفع بعجلة التقدم في حل الأزمة والوصول لصيغة فاعلة تعيد السلم والأمن وتنهي الصراع من جذوره، وهنا تبرز الأهمية القصوى لعدم لوم طرف دون الآخر، بل يجب التخلّي عن عادة إلقاء اللوم على الآخرين، بحكم أن طرق وآليات حل النزاعات تختلف آليات من مجتمع إلى آخر وفقاً لما يسوده من عادات وتقاليد، وأهمها بلا شك يكمن في التفاوض الذي يتطلب ضرورة تباحث أطراف النزاع في البدائل المحتملة للوصول إلى حلول مشتركة تُرضي الجميع وتُحقّق مصالحهم، ولا يقتصر استخدام هذا الأسلوب في حل النزاعات فقط، بل يكاد يمس كافة مناحي حياة الإنسان حتّى في الأمور الخاصة والشخصية. ومن ثم يأتي دور الحوار، الذي يقتضي أهمية لجوء المتنازعين إلى تبادل أطراف الحديث والتحاور في القضية التي يختلفون عليها، فيُدلي كلّ واحد منهم برأيه محاولاً إثباته بالحجة والدليل القاطع، وذلك للإقناع وبيان وجه الحق في الخصومة، يعقب ذلك دور الوساطة لفض النزاع بين المتخاصمين، والتي توجب أن يقف الوسيط على الحياد فلا يميل لطرف على حساب آخر.
مع أهمية وضع مسألة الثأر في حسبان الآلية، والذي بدوره يعتبر آفة التنمية والسلم الاجتماعي في كل أقاليم السودان، وبالتالي تكثر مثل تلك النزاعات القبلية، والتي نردها بلا شك لغياب الإرادة السياسية، والتي بدورها تعتبر سبب أساسي في انتشار هذه الظاهرة
التي نخرت في جسد المجتمع السوداني، وشقت الصفوف وبثت الخوف، وكادت تهلك الحرث والنسل في النيل الأزرق، لولا لطف العلي القدير، وكل ذلك مرده لغياب القانون وشلل الدولة والقضاء، حتى كان تفعيل مبدأ المصالحة وبإشراف رسمي تشكل على إثره آليات فض النزاعات القبلية، ومجالس العرف القبلي، ومجالس الحكماء مدعومة بمبادرات المصالحات الوطنية، لتتجسد الثمار بلقاءات صلح وتسامح طوت قضايا قتل بداعي الثأر امتد عمر بعضها لعقود تجاوزت ما عرفه حتى العرب عن حرب البسوس وداحس والغبراء.
وبالعودة إلى الماضي القريب، خاصة عقب تسنم المؤتمر الوطني لسدة الحكم في السودان، نجد أن قضية إثارة الفتنة والنعرات العنصرية والقبلية تقف شاهداً على واحدة من أخطر مظاهر العصبية التي أججها حزب المؤتمر الوطني المنحل، والمتكئة على مفاهيم العُصبة ومنه إلى ممارسة هذا الفعل، ليقود ترسيخ هذه الثقافة إلى انتشارها وتحولها إلى ظاهرة.
حكايات مؤلمة تلك التي أسفرت عنها حوادث الثأر، عاشها عدد من الأقاليم والولايات السودانية لسنوات طويلة، متسببة في العديد من الكوارث ونشر الخوف بين الأهالي، ولم تستثن صغيراً أوكبيراً، رجلا أو امرأة في ما اعتبره الكثير خروجاً عن العرف القبلي الأصيل، بل وذهب إلى أبعد من ذلك فارتكبت جريمة الثأر غدراً وارتكبت في الأسواق والأماكن العامة، أما لماذا؟، فتتعدد خلفياتها على أنها تنشأ أحياناً بنزاعات حول قطع الأرضي أو القتل بالخطأ أو نتيجة لحدود قبلية، أو مطالب مشروعة يمكن أن تحل سلمياً والقانون، ولعل استهداف الأطفال والنساء في مثل هذه القضايا يعد تراجعاً خطيراً عن التقاليد القبلية الحميدة.
ولعلنا إذا بحثنا في مسببات العنف والاقتتال الأخير الذي حدث في النيل الأزرق، نجد أنه نتيجة لعدد من الأسباب ساعدت في نشوب ذاك الاقتتال، وأولها بلا شك يتمثل في تفشي العنصرية العصبية والكراهية والأمية، وهي التي لعبت دوراً كبيراً في هذه القضية، بجانب انتشار ثقافة حمل السلاح بين المواطنين، ولا شك أن غياب سلطة القانون مثل القاعدة الأساس التي شجعت على تزايد الظاهرة، فحين يرى الشخص أن الدولة لا تأخذ له بحقه، تجده يلجأ إلى أخذه بيده دون اعتبار لأي آثار أو تداعيات.
والثابت أن استشراء الفتنة القبلية يعتبر أحد المعوقات الكبرى للتنمية وعدم الاستقرار، بل أحد أكبر العوامل الرئيسية في إضعاف الدولة.
إن السبب الرئيس في تعقيد ظاهرة انتشار العنصرية والكراهية يكمن في ارتباطها بعوامل كثيرة مسببة لها، سواء في العلاقات بين الأفراد في النزاع على الأراضي أو القضايا الاجتماعية والصراعات السياسية، ولا تقف إشكالية هذه الظاهرة عند حد إزهاق الأرواح دون احتكام إلى قضاء أو قوانين، وإنما ما تشكله من إقلاق للأمن الاجتماعي، والذي يجعل منها قضية نظام باعتبار الظاهرة قضية نظام عام تمس حياة المجتمع، وطبقاً لبحث مضني قمنا به خلال الفترة الماضية وجدنا إن النزاع القبلي في النيل الأزرق أسفر عن تشريد نحو مائة وخمسين ألف من قراهم وأحيائهم السكنية.
ومن منطلق تلك الأحداث، نجد أن إقليم النيل الأزرق بحاجة إلى ثورة عارمة ضد مسألة إثارة الفتنة والنعرات القبلية والعنصرية والكراهية، والتي انتشرت انتشار النار في الهشيم مؤخراً، ونحذر الجهات المعنية كافة في الإقليم من ترك قضية الثأر خارج دائرة الاهتمام الفعلي باعتبار‏ ‏أنها تهدد بشدة الأمن الاجتماعي مستقبلاً.
وعلى قادة الإقليم السياسيين، ورجالات الإدارة الأهلية وحكماء القبائل الوقوف بحزم أمام مخططات العدوان الداعية إلى الفتنة والاقتتال وقطع الطرق أمام الأعمال التخريبية وإثارة النعرات عبر وثيقة شرف القبلية تضم كل مكونات إقليم النيل الأزرق الإثنية، لتكون حصناً حصيناً للجبهة الداخلية.
عقب عقد مؤتمر شامل للمصالحات في الإقليم، ولتدشين البرنامج التنفيذي لوثيقة الشرف هذه، شريطة أن تتضمن قواعد وثيقة الإعلان عن تدشين مصالحة مجتمعية عامة بين مختلف أبناء القبائل والمكونات الوطنية تعزيزاً لمبادئ التصالح والتسامح والتلاحم والأخوة بما يحقق المصلحة الوطنية وترسيخ قيم التعاون والتعايش والعدالة الاجتماعية والوحدة والاستقلال والأمن والاستقرار، وتشكيل مجلس يشمل المحافظات ولجان لمتابعة ترتيب وتفعيل دور تلك المكونات في مختلف المجالات وأهمها مواجهة أي عدوان محتمل لاحقاً، وأن تشمل القواعد الإعلان عن صلح عام شريف نظيف بين كافة أبناء النيل الأزرق، والإعلان عن حلف أخوي تلاحمي قبلي وطني تضامني موحد يلتزم بموجبه الجميع بمبادئ أمن الساحة والدفاع المشترك عن سيادة الوطن ككل والنيل الأزرق على وجه الخصوص.
والالتزام بالرفض القاطع لدعوات العدوان ومخططاته الهدامة الداعية إلى الفتنة والاقتتال والأعمال التخريبية وإثارة النعرات العنصرية والطائفية والمناطقية والمذهبية، والتأكيد وقوف كل القبائل صفاً واحداً في مواجهة الفوضى وإشعال الفتن وإفشال مخططاتها، والتشديد على أهمية ترسيخ قيم ومبادئ الأسلاف وتثبيت القيم والأعراف القبلية الحميدة المنسجمة مع الشريعة الإسلامية الغراء والحفاظ على الهوية الحضارية العريقة لإقليم النيل الأزرق المستمدة من مبادئ وقيم سلطنة الفونج التي تعتبر أول سلطنة إسلامية في إفريقيا ككل.