دور المؤسسات في رسم السياسات (1-2)

في ما أرى
عادل الباز
1
بعد أن كتبت ثلاث مقالات حول (كيف يتخذ الرئيس البرهان قراراته)، استهوتني الفكرة ودفعتني للرجوع للوراء قليلاً للنظر في تاريخ اتخاذ الأنظمة السودانية السابقة لقراراتها، وذهبت بي الفكرة بعيداً إلى عهد المهدية وكيفية اتخاذه للقرارات (هل كانت فعلاً الدنيا مهدية)، عموماً، السؤال المطروح تاريخياً كيف كانت تصنع الأنظمة المتعاقبة في السودان قرارتها.؟. رغم أن قلبي منقبض من المعلومات القليلة التي عثرتُ عليها حول الطرائق العبثية غير المؤسسة التي كانت تتخذ بها مختلف الأنظمة قراراتها، إلا أنني شعرت أني لن أستوفي الفكرة حقها إلا بالعكوف على كتابة كتاب يتتبع طرائق ومنهجية إصدار القرارت تاريخياً في الدولة السودانية، قد نكتشف أن أزمتنا السياسية المتطاولة تعود لعجزنا عن استنباط نهج خاص بنا لإصدار القرارات، لو أمد الله في الآجال ويسر سأعكف على إنجاز ذلك الكتاب في غضون سنتين بإذن الله.
2
وحتى ذلك الحين رأيت الاستئناس بإفادات بعض الأصدقاء الذين لهم خبرة ومعرفة بطرائق اتخاذ القرارات في أنظمة حكمٍ مختلفة، تلقيت كثيراً من الإفادات أختار منها اليوم ثلاثاً، أولها حول كيفية اتخاذ نميري قراراته ومن يصنع السياسة في تلك الحقبة والإفادة الثانية من كتاب لمصطفى الفقي وتتركز حول كيفية اتخاذ حسني مبارك قراراته؟
تقول الإفادة الأولى (بدأ مركز صياغة القرار في العهد المايوي يتشكل عقب فشل انقلاب الحزب الشيوعي وعودة جعفر نميري إلى السلطة في يوليو 1971. إذ تم عقب ذلك مباشرة استغلال الزخم الجماهيري الداعم لنميري لتنظيم استفتاء وضع نميري على رأس الدولة رئيساً للجمهورية، أعقب ذلك تشكيل مجلس الشعب الأول والشروع في صياغة دستور للبلاد اكتملت إجازته في العام 1973 وقد منح ذلك الدستور سلطات واسعة لرئيس الجمهورية، وتم استغلال محاولة انقلاب المقدم حسن حسين في سبتمبر 1975 لتعديل ذلك الدستور باتجاه منح مزيد من السلطات لرئيس الجمهورية بحيث تم تركيز سلطات مهولة في يد جعفر نميري.
خلال الفترة 1973 — 1983 جرى تشكيل مجالس وزراء ضمت كفاءات فاعلة ذات أداء متميز بصفة عامة وأشرفت الحكومة التنفيذية على بناء قدرات الدولة ومشروعات التنمية بدعم كبير من موارد البترودولار العربي الذي توفر عقب حرب أكتوبر 1973.
خلال الفترة من 1973 حتى سقوط النظام عقب انتفاضة أبريل 1985 ظل مركز السلطة الحقيقي هو رئيس الجمهورية جعفر نميري الذي كان يقف فعلياً على قمة نظام شمولي يمنح الرئيس صلاحيات شبه مطلقة (بعد التعديلات التي أدخلت عام 1975 على دستور 1973).
برغم أن الرئيس حاول بناء تقاليد لممارسة السلطة إلا أن قبضته ظلت قوية فيما يتعلق باتخاذ القرارات، وينطبق ذلك على قرارات الحكومة التنفيذية والقرارات السياسية التي تصدر عن التنظيم السياسي (الاتحاد الاشتراكي).
وكان معتاداً ومألوفاً في العهد المايوي أن يتدخل الرئيس بصورة مباشرة لتغيير القرارات التي يصدرها الوزراء، أحياناً باستبدال القرارات بأخرى توافي رغباته أو إقالة الوزراء واستبدالهم بآخرين.
وكما تقدم فإن ذلك النمط من التحكم في اتخاذ القرار كان يشمل قرارات تنظيم الاتحاد الاشتراكي، ومن أشهر الحالات في هذا الصدد القرار الذي صدر عن التنظيم عبر آليات اتخاذ القرار برفض اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، فقام رئيس الجمهورية في اليوم التالي مباشرة بقرار منفرد بإلغاء ذلك القرار وإصدار آخر يعلن تأييد الاتفاقية ودعمها.
قام الرئيس في محاولة لتغيير آلية اتخاذ القرار على المستوى الاتحادي بتعيين رئيس للوزراء عام 1977 (الرشيد الطاهر) وعهد إليه بإدارة الحكومة التنفيذية ولكنه لم يطق صبراً على تلك التجربة فعاد بعد أقل من عام واحد بحل تلك الحكومة وإعادة تجميع كل السلطات في يده.
2
حكى مصطفى الفقي الذي عمل لمدة ثماني سنوات سكرتيراً لمدير مكتب الرئيس آنذاك وهو أسامة الباز عن كيفية اتخاذ القرار في عهد الرئيس مبارك فقال: (تبعث الوزارات والمؤسسات بمذكراتها وطلباتها للرئاسة تطلب فيها اتخاذ قرار معين بناءً على السياسات العامة المقرة سابقاً وغالباً يحدث ذلك في القرارات الكبيرة.. فيقوم مكتب الرئيس بدراسة تلك الطلبات واستدعاء خبراء من خارج الوزارة أو المؤسسة المعنية لأخذ الرأي والمشورة، ثم بعد ذلك يستدعي الوزير المختص لحوار تفصيلي هو القرار المطلوب بناءً على ما أفاد به الخبراء.
بعد استكمال الاستماع للخبراء والجهات المختصة يقدم أسامة الباز للرئيس مبارك ملخصاً لما دار (القرار المطلوب / رأي الخبراء/ الخيارات/ توصية المكتب).. يطلع على التفاصيل والملخصات والخيارات والتوصيات المقدمة له من مكتبه، بذلك قال مصطفى الفقي إن للرئيس هواية في استدعاء الوزير الذي طلب القرار مضافاً إليه كل من أسهم برأي في تشكيل القرار من خبراء إلى مدير المكتب وبعض من يرى أهمية الاستماع لرأيه، في الجلسة التي تضم كل أولئك يستمع الرئيس لجدل ساخن وحر يدور أمامه بين جميع الأطراف، بعد تلك الجلسة وبعد ساعة من نهايتها يصدر الرئيس القرار مكتوباً بخط يده ويسلمه إلى مدير مكتبه أسامة الباز، ومن ثم يتولى مكتب خاص بمتابعة القرارات ورفع تقرير بذاك في مدى زمني معين..
نواصل.