عبد الحفيظ مريود يكتب: داكو لقيتي يا خيي

بدون زعل
داكو لقيتي يا خيي
يجرجر نصف جسده، الذي يبدو أنه خذله في وقت باكر، نوعاً ما، يصعد البروفسير أحمد الطيب زين العابدين، العتبات الثلاث، إلى مكتبه، بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية، متوكئاً على عصاه..
ما أن يجلس وراء التربيزة، يلتقط أنفاسه، حتى يرفع صوته، منادياً بائعة الشاي، القريبة منه، هي غالباً تعمل في وظيفة “فراشة” بالجامعة “يا حوا.. حوا.. يا حوا”، يصدف أن تسمعه، فترد عليه “نعم”، غير أن الكثير من المرات تكون غائبة عن موقعها، أو منشغلة، فيضطر إلى تكرار النداء، في فترات زمنية محسوبة..
“معقولة الواحد يقعد نهارو كلو ينادي: حوا، حوا، زي أبونا آدم ياخ؟!!”.. ساخراً من الموقف، مبتسماً ابتسامته الودودة الصافية، العارفة، المثقلة بالمعنى، الغامضة، في الوقت نفسه..
شايف كيف؟
ولأنه نادراً ما يكون وحيداً في مكتبه، فإن حواء لن تهدأ أبداً.. يقلقلها بالنداءات المتكررة.. “لابد أن تشرب شيئاً”.. ولأنك في حضرته، ستطلب شيئاً، حتماً.. طلاباً، خريجين، زملاء، مثقفين من مشارب مختلفة، بعضهم لا يجد كرسياً، يظل واقفاً، أو يطلب الإذن بأنه سيعود بعد قليل.. ريثما ينهي من سبقه ما جاء لأجله.. قد يكون مشغولاً يكتب أو يترجم، منكباً على أوراقه، لا ينطق إلا رد التحية، ومع ذلك يظل الجالسون منتظرين.. يديرون أحاديث إلى حين أن ينهي ما يفعله..
هل تريده في تأريخ الفنون؟ في فلسفة الفن؟ في علم الجمال؟ في المدارس الفنية، علم الاجتماع، الأنثروبلوجيا، الحضارات القديمة، قبائل السودان.. الخ؟ ما الذي تريده منه؟
شايف؟
في الندوات المفتوحة، يجد دائماً من يعابثه أو يعاكسه.. ذلك أنه ظل يتبنى (المنظور السودانوي)، في ظل استقطابات حادة، أيديولجيا، سياسياً، ثقافياً وعرقياً.. وهو مشروع يصادم الجميع، بالطبع. فالجميع يريد أن يكون ملتزماً.. الحرية باهظة الثمن، صادمة، وجارحة.. يتشنج بعض طلابه الذين صاروا أسماء لامعة وأساتذة بالكلية.. يرد على مداخلاتهم بأدب أبوي فريد.. كأنهم لم يكونوا يوماً جلوساً في القاعة يتعلمون منه.. سألته ذات يوم، بعد ملاحظات عديدة “البروفسير.. مشكلتو شنو معاك يا بروف؟) ضحك..” عندي قصة قصيرة ح أكتبا يوم بعنوان: مواجع الرجل القصير.. ح تعرف بعد داك مشكلتو شنو”.. وواصل ضحكته..
وطد علاقتي به تلميذة المأفون عادل بدوي السنوسي، ابن بربر.. وهو مثقف من طراز فريد، ناقد للفنون ومتعمق فيها، ساخر إلى درجة الجنون.. غادر – مثلما فعل الكثيرون – أرض النفاق هذه، مستقراً في أوربا..
شايف كيف؟
أحمد الطيب زين العابدين وتد مكين من أوتاد السودان، لم يلتفت الكثيرون إليه.. يرى أن الالتزامات الأخرى – على صحتها – ضيقة لا تناسب السعة (السودانية).. يمكنك أن تكون عروبياً، إسلامياً، إفريقانياً، ماركسياً، ناصرياً، ما شئت.. ولكنك – وفقاً لمنهجه – ستلبس قميصاً ضيقاً، سيلتصق بجسدك، الذي سيستجيب للتحولات.. ستكون مثل سيدة تفقد وقارها بإصرارها على ارتداء فساتين غير منسجمة مع تكوراتها، انبعاجاتها، استداراتها.. المواعين الجاهزة بالنسبة إليه حلول مؤقتة غير ضرورية.. ثمة ما يعلوها، باستمرار، وهو الانتماء إلى الأصل الجامع، لذلك يرى أن محاولات “توجيه الفن، وتأطيره ضمن سياق أيديولوجي”، هو أشبه شيء بالهروب عن (السعة السودانوية)..
كتب القصة القصيرة، البحوث الأكاديمية الرصينة.. ترجم بحوثاً ومقالات مهمة.. دون أن يقدم نفسه على أنه علم على رأسه نار..
شايف كيف؟
ذات مرة طلب إلينا – صديقي عثمان شنقر، وأنا – أن نفرغ يوم الجمعة القادم لترتيب مكتبته في المنزل.. ذهبنا، بعد الفطور كان يسكن وأسرته في سكن أساتذة جامعة السودان، في المجمع الجنوبي.. هالنا الكم والكيف.. عكفنا على ترتيب وتنظيم المكتبة، تغدينا، وخرجنا بحصيلة فاخرة من الكتب، وسياحة ثقافية فكرية لا تتوفر في الأجواء اليومية، في المكتب أو الندوات والورش..
أن تتلمذ – خارج الصف – على يدي البروف أحمد الطيب زين العابدين، هو أن تلازم شيخ طريقة دون أن تكون حواراً منتظماً، منضبطاً بأوراد الطريق.. يفيض عليك بأكثر مما يفيض على “الحيران”، وذلك لأنه يقربك إليه بالمحبة، لا السلوك والانضباط..
يشاغبه “الفكي عبد الرحمن”، المثقف والإعلامي في ندوة، حين عرض البروف إلى أن (الشايقية نوبيون استعربوا، وفقاً للأسانيد التي بين يدي)، قائلاً: “داير تمرقنا نوبة عشان تخش معانا”.. يضحكان ويضحك الجمع.. والبروف ينتمي إلى قبيلة “البرتي”، بدارفور – أم كدادة.. ليس من نكد وانتفاخ وتنمر وافتئات.. يرد البروف (إنتو النوبة أحسن ليكم.. لاقينهم وين؟ لا قدرتوا تلموا في العباس، لا اعترفتوا بنوبيتكم.. مارقين من المولد بلا حمص)..
كان يقدم، مفتتحاً، معرضاً تشكيلياً (كولاج)، لفنان اسمه إبراهيم، في صالة العرض بالهيئة القومية للثقافة والفنون، دار حزب الذي كانت قد صادرته حكومة الإنقاذ.. الرجل متخصص في الترجمة قام بترجمة بعض أشعار محمد عبد الحي، وشعراء مرموقين، ونفذها على لوحات لأساطين التشكيليين السودانيين: شبرين، عثمان وقيع الله، الصلحي، بسطاوي بغدادي، كمال إسحق.. حين بدأت التعليقات والتعقيبات قال الناقد معاوية البلال إن العمل غير أصيل.. كان رد البروف “يا معاوية إنت لا بتعرف تشكيل، لا بتعرف إنجليزي.. الموضوع دا خليهو”..
فيما بعد صار معاوية أسترالياً، أو كندياً، بعد أن هاجر.. ومن المؤكد صار يعرف التشكيل والإنجليزى أحسن الإنجليز “ذات نفسهم”..
شايف كيف؟
هذه سطور محبة، لا غير، لن تفي البروف أحمد الطيب زين العابدين حقه، ولن تعرف به.. مهداة إلى تلاميذه، وخاصة صديقي المأفون عادل بدوي السنوسي، في منفاه..
لعل الله يقيض للأجيال القادمة من يقوم بجمع وطباعة مقالاته وبحوثه في كتاب يضع البروف – عليه شآبيب الرحمة – في موضعه الريادي بين المثقفين والعلماء السودانيين.