عبد الحفيظ المريود يكتب: رسائل من غرفة مظلمة 

بدون زعل

عبد الحفيظ المريود

رسائل من غرفة مظلمة

أيتها البعيدة، جداً:

مما ينسب إلى نزار قباني، إنه قال:

“إخذليه، كى لا ينساك.. وأوجعيه، كي يحبك أكثر”

وبعد:

أتمنى أن تصلك رسائلي هذه، وأنت في أتم الصحة والعافية، سعيدة ومشرقة الضحكة، وعالية الهمة.

١

تقودين سيارة أمك النيسان. الثامنة، صباحاً، تكونين قد وصلت “سوق الشجرة”، بأمدرمان، سأستحم وأخرج إليك “حسنا.. فقط، لا تتأخر”.. اخرج في بنطال جينز وتي شيرت مخطط، أزرق بالأبيض، أركب السيارة. سنشرب قهوتنا قبالة النيل، هناااك، قريباً من كبري المنشية، ليس من خلق كثير ذاك الوقت، نزلنا، لا يفصلنا عن النهر، النيل الأزرق إلا أمتار معدودة. كأنما الصباح قطعة من وجهك، من ابتسامتك.. كأن النهار ضوء عينيك الحانيتين.. نشرب، وأدخن سيجارتي.. آثار السهر بادية على. سنتحدث قليلاً.. بيننا الصمت الودود المتأرجح..

بعد ساعة أو أكثر “أين نفطر؟”. السؤال الذى يجلب السوء، الشكلة، المكاجرة..

قررت أن أكاجر، هذا الصباح، وأنتصر، “سنفطر عدس في مطعم شعبي”.. ضحكت، بالتأكيد، ساخرة ومستبعدة الفكرة “أنا ما باكل في أي مطعم.. إنت عارف.. لو عدس، خليني أتصل على الطباخ يجهزو.. بمشي أجيبو أنا.. أو أقعد لي هنا، بمشي أعمل العدس وأجيك ناكل هنا، أو فيى أي حتة”..

أتكئ على عنادي المكين: “يا نأكل عدس في مطعم شعبي، زينا وزي الناس، يا ما عايز أفطر”..

ألمح طيف الغضب في عينيك. الضيق. تصمتين، دقائق..

“أوكي.. خليني طيب أرجع العربية دي، عشان أمي طالعة.. وأجيب البوكس الدبل كابين.. بس تسوق إنت.. لأني ما بحب سواقة الما أوتوماتيك”.

أوافق.. فتذهبين.. أشعل سيجارة ثالثة، زهواً وانتصاراً، هذه المرة..

تعودين، فنذهب للعدس في مطعم شعبي ممتلئ بالناس.. فيما نأكل، تعلقين: “والله ما كعب.. بعدين الحتة نضيفة”..

حسناً..

سأشكرك – الآن، بعد سنوات – على ذلك الصباح.. كان بإمكانك أن تفسديه بالعناد.. كنت تعرفين أنني أفعل ذلك لأنني أريد أن أفعله، وحسب.. لا لأي سبب.. أريدك أن تخضعي لرغبتي البهيمية العنيدة.. “إنت مدلع… وأنا ما عندي مشكلة أدلعك زيادة.. خربنك النسوان الحبوك قبلي ديل.. أسوي شنو عاد!!!”.

٢

كان عليك أن تخرجي – كعادتك – إلى عملك، هناك في البلاد البعيدة..”سأرتدي بنطالاً وبلوزة.. لكن البلوزة قصيرة شوية.. وح أمر وأنا راجعة على محل فلان الزغاوي.. حتماً سأصادف سودانيين”.. سأنتفش. أسألك هل هي قصيرة، أم قصيرة جداً؟. ح ألبس وأتصور ليك، قبال أطلع.. خليك قريب من الواتس.

حسناً..

حين تبعثين الصور، الملتقطة عبر المرآة، ينتابني إحساس بأن كنوزي ستكون تحت أنظار السابلة من السودانيين، هناك.. وسأغضب.. أرسل إليك “غيري اللبسة دي”…”حاااااضر”، بلا نقاش.. بيننا بحار ومحيطات وجبال وفارق توقيت.. تغيرينها وتبعثين الصور.. “أوكي”، أرد عليك..

سأشكرك – للمرة المائة والعشرين – على أنك كنت تفعلين ذلك لأجلي.. لأنني مهم بالنسبة إليك.. لأنه كان يمكنك أن تفعلي ما يحلو لك، دون أن أعرف.. أحب تقديرك لي، وأجله.

٣

في إحدى إجازاتك.. لا أتحدث عن الهدايا، قطعاً، فذلك مما لا يليق.. ولا الكتب النادرة التي أطلبها، فترسلينها، أو تأتين بها..

أتحدث عن أمسية كنت قد قررت فيها أن تصنعي بسبوسة.. “لأجلك.. ولأنك تحبها”. تقودين السيارة إلى أمدرمان.. سنجلس على درج، قريباً من كبري الفتيحاب.. سنطلب إلى بائعة الشاي كوبين من شاي اللبن.. لا شيء يجيء بنا إلى هنا، كبري الفتيحاب.. لكنه الجن الأحمر، الأزرق، البنفسجي.. إنه الحب.. تجلسين هناك، كأن العتبة تلك، هي بيتنا..

سأشكرك – كما هو واضح – كما سأشكرك على الطاقية من بائعات الطواقي، تحت برج الدهب، في السوق العربي.. والسكين، أيضاً “أهلك بحبوا السكاكين.. ما ممكن ما يكون عندك سكين رجال”.. تعرفين أنني لن أستعملها، هنا في أبوروف.. لكنني أشكرك..

أشكرك لأنك كنت يوماً في حياتي.. لأنك بذلت جهدك كي نكون معاً.. لأنك أحببتني كما أنا.. ولأنك كنت لي..

افتقدك

مع السلامة


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب