عقار.. عرمان.. تشظي الحركة الشعبية

النذير إبراهيم العاقب
انعقد اجتماعٌ مشتركٌ، للمرة الثانية بين الفريق مالك عقار والرفيق ياسر عرمان بالخرطوم، حيث تم الاتفاق أن يتم الافتراق على نحو ودِّي يُؤسِّس لإرث محترم في أدب الاختلاف داخل المؤسسات السياسية في البلاد.
يُذكر أن الاجتماع جاء بدعوة من عضو مجلس السيادة د. الهادي إدريس، بغرض الوصول إلى اتفاق لتوحيد الحركة الشعبية لتحرير السودان.. شمال الجبهة الثورية.
وأصدر مالك وعرمان، بياناً مشتركاً للرأي العام فيه أنه قد تزامن ذلك مع مجهودات مقدرة من رفاق عديدين من قادة الحركة الشعبية وأصدقائها من داخل وخارج السودان، بعد نقاش مستفيض وعميق اتّسم بالشفافية والصراحة، توصّل الطرفان الى أنّ القضايا مكان الخلاف جوهرية وعميقة ومن الصعب التوافق حولها.
وأضاف البيان أنه قد اتفق الطرفان أن على تياري الحركة الشعبية عدم استهلاك طاقاتهما في خلافات غير منتجة، سيّما التي تتّسم بالإساءات وعدم احترام الرفقة المشتركة لسنوات طويلة، والاستفادة من تجارب الحركة الشعبية السابقة وعدم تكرار ما هو سلبي منها في إدارة الخلاف، وأن يتم الافتراق على نحو ودِّي يُؤسِّس لإرث محترم في أدب الاختلاف داخل المؤسسات السياسية في بلادنا.
ولعلني حين أكتب تعليقاً على هذا النبأ المحبط جداً لكل عضوية الحركة الشعبية، أجدني والحسرة تملؤني حد النخاع، جراء هذه الخطوة غير المدروسة البتة، والتي بلا شك لها ما بعدها من الآثار السلبية على تنظيم الحركة ككل، في حين أنها كانت في أمس الحاجة لترسيخ مبادئ الوحدة والعمل على عقد مصالحات شاملة مع الأطراف الأخرى التي سبق وانشقت من التنظيم، بيد أن هذه الخطوة الأخيرة قتلت كل أمل في نفوس المنتمين للحركة في إيجاد حلول ناجعة للخلافات الناشبة بين قياداتها العليا، وفي حين علق عليها جل الشعب السوداني الأمل في استشراف غد سياسي مشرق في السودان ككل، ناهيك عن الانتعاش السياسي الذي كان مرجواً من قياداتها المختلفين حال اتفاقهم، وإعادة رتق الفتق المريع الذي أصاب جسد الحركة الشعبية في مقتل، لا سيما وأنها كانت من أكثر الأحزاب السياسية السودانية تنظيماً وتفاعلاً مع قضايا الأمة السودانية بلا تمييز، وظل قياداتها العليا، بدءاً من المؤسس العقيد الراحل جون قرنق دي مبيور، ووصولاً إلى الفريق مالك عقار، ظلوا يعملون على نصرة الحق وتحقيق أقصى قدر من التوافق الوطني في السودان، وذلك بجمع أكبر عدد من المواطنين حولها، والسعي للوصول إلى السلطة، أو على الأقل التأثير على قرارات السلطة الحاكمة، ناهيك عن الأمل الكبير والذي تجذر في نفوس عضويتها بأن يعتلي أحد قادتها سدة الحكم في البلاد، بحكم أنها كانت تشكل نظاماً سياسياً منظماً يحمل في داخله شعارات وبرامج رسمية، وقادر على تقديم مرشحين للانتخابات بهدف الوصول إلى السلطة في كل مستوياتها الرئاسية والتشريعية والوزارية، بفضل تكتل ملايين المواطنين المتحدين حول ذات نظامها السياسي المتميز.
ولا أظن أن هناك من يختلف حول أن الحركة الشعبية قبل تشرذمها وتشتتها الأخير هذا، كانت تعتبر من أهم التنظيمات السياسية التي تؤثر بشكل مباشر على سير وحركة النظام السياسي وضمان استمراره واستقراره، بحكم أنها بتماسكها السابق، كانت تؤدي دوراً مهماً في تنشيط الحياة السياسية السودانية، وصارت تُشكل ركناً أساسياً من أركان النظم الديمقراطية، وأن أداءها كحزب سياسي فاعل، وخاصة عقب توقيع اتفاق جوبا، انعكس إيجاباً على نوعية الحياة السياسية السودانية، وعلى مستوى التطور الديمقراطي والتحديث السياسي وفاعلية النظام السياسي الذي يُعدّ انعكاساً للنظام الحزبي السائد في الدولة.
وقد طمع منسوبو الحركة الشعبية في أن تقوم عبر قياداتها الكبرى بالتعبير عن اهتماماتهم وحاجاتهم العامة والعمل على تحقيقها من قِبَل الحكومة، بفضل الضغط على صنَّاع السياسة العامة الرسميين، وكذلك نقل رغبات وسياسات الحكومة إلى منسوبيها، والعمل على تعبئة الجهود والمواقف المتباينة إزاءها، إما دعماً وإما رفضاً.
وبحكم وجود الفريق مالك عقار، والرفيق ياسر عرمان، بالتحديد في أعلى مستويات المشاركة السياسية والمنوط بها رسم سياسات الحكم في الدولة، كأن يعتبرهم الكثيرين الركيزة القوية والمنظمة للربط بين القمة والقاعدة وكمحطة اتصال لازمة بين المواطنين والسلطة، وأنهم يجمعون المعلومات وينقلونها إلى السلطة، وكذا ينقلون إليهم مطالب الشعب، ناهيك عن أنهم يعتبرون من المخططين والمنفذين للسياسة العامة بحكم مناصبهم العليا في السلطة، وبالتالي سيقومون بتطبيق برامجها عن طريق القوانين التي سيشاركون في سنها في السلطة التشريعية، أو عن طريق تنفيذ القوانين في السلطة التنفيذية، أو عن طريق وجودهم، إن افترضنا، في المعارضة وهنا قد يقوم العضو منهم باستخدام وسائل وطرق عديدة للضغط والتأثير على السلطة.
وبما أن مصطلح الحزب عامة، يشير إلى التعددية، من حيث تباين الأيديولوجيات ووجهات النظر والبرامج والوسائل، كنا نطمع أن تكون آراء قادة الحركة المتباينة تتضافر في شكل متناسق يختلف عن جماعات المصالح والنقابات والجماعات الأهلية، التي تتبنى آراء ومصالح ضيقة، بحكم أن تباين الآراء داخل الأحزاب مصدر قوة وليس ضعفاً، والشاهد على ذلك أنها تمارس أدواراً من شأنها أن تبرز التأثير الجلي للأحزاب على السياسات العامة، كما أنها تعد وسيلة مهمة لنقل تفضيلات الناخبين إلى الهيئات والمؤسسات المنتخبة، بيد أن الخلاف الأخير بين عقار وعرمان، نسف كل تلك الأماني الباذخة من نفوس مواليهم والمنتمين للحركة الشعبية، في غدٍ مشرقٍ لحزبهم الذي وضعوا فيه كل آمالهم والمتمثلة في تحقيق أكبر قدر من المصالحات الشاملة بين تشرزمات الحركة، ناهيك عن آمالهم الضخام في أنهم كانوا يطمعون في أن تحقق سياسات الحركة الشعبية بحكم مشاركة قياداتها في الحكم، أكبر قدر من التنمية الحقيقية والمستدامة في السودان ككل، والنيل الأزرق وجنوب كردفان على وجه الخصوص، من منطلق دورها المنوط في رسم وتخطيط السياسة العامة، من خلال مشاركتها في السلطة التشريعية التي تعتبر أهم السلطات في الدولة، بحكم أنها تقوم بسن القوانين ووضع القواعد العامة الملزمة للأفراد، وتكون المساهمة في هذه السلطة عن طريق مشاركة أعضاء الحركة في الحياة الحزبية والسياسية للدولة، وذلك في إطار المشاركة السياسية التي بواسطتها تتم المشاركة في صناعة القرار السياسي وخاصةً صنع ورسم السياسات العامة التي تهم منسوبيها وتخص المجتمع عامة، وذلك عن طريق التمثيل في المؤسسات السياسية المُنتَخَبة والتي تعبر عن اهتماماته أو جزء منها.
ولعل الخلاف الأخير بين عقار وعرمان أكد بجلاء أن الحركة الشعبية كانت تتعرض لضغوط من الداخل مردها هشاشة التنظيم، ووجود مشكلات مرتبطة بآلية اتخاذ القرار، مع عدم استبعاد وجود ضغوط خارجية على بعض قادتها، دفعتهم إلى تأجيج الخلاف والوصول به إلى هذه المرحلة الحرجة.
لكل تلك الأمور التي مر بها تنظيم الحركة الشعبية في السودان، ولعلها تنطبق على كل الأحزاب السياسية السودانية التي لم يسلم أحدها من التشظي والتشرذم والانقسام، تأكد وبما لا يدع مجالاً للشك استحالة أن تتطور الأحزاب السياسية السودانية في القريب العاجل، إلا عبر اتباع الأساليب التي ثبت نجاحها في البيئة التي نشأت فيها الأحزاب، وهي أوروبا الغربية، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة أن تكون تلك الأساليب والآليات تصلح في التعامل مع الأحزاب فى البيئة السودانية، إضافة بالطبع إلى ضرورة إصلاح بعض الأمور التي ترتبط ببيئة عملها من خارجها،
وفي هذا الإطار كان ينبغي وضع ملامح عامة لتطوير الأحزاب السياسية ككل، بغية أن تعود للتفاعل مع الجماهير، بدلاً من غيابها الذي أصبح بمثابة سمة لغالبيتها.
وأولى تلك الملامح هي أهمية وضع مبادئ الحوكمة في الأحزاب، مع الأخذ في الاعتبار أن الحديث هنا يجري على مؤسسات سياسية، وليس مؤسسات اقتصادية، وفي هذا الصدد من الأهمية بمكان وضع الأسس الضامنة للتداول السلمي للسلطة داخل هذه الأحزاب، وذلك كله عوضاً عن الوضع الحالي المتعلق باستبداد القيادات وسلطوية اتخاذ القرار، والذي يجب أن يجد صداه ليس فقط في لوائح الأحزاب، ولكن، وهذا هو الأهم، في التطبيق إذا ما اتسمت بعض تلك اللوائح بالديمقراطية.
ومن المفيد في ذات الإطار إعمال قواعد الديمقراطية الداخلية فيما يتعلق ليس فقط بديمقراطية اتخاذ القرار، بعيداً عن قواعد التراضي والتوافق السائدة، بل وأيضاً انتخاب المستويات التنظيمية في الأحزاب وتداول السلطة داخلها، ووضع آليات واقعية لفض المنازعات الداخلية، وذلك بعيداً عن قواعد التزكية أو التعيين المعمول بها فى أغلب الأحيان، وإعمال مبدأ التفاعل مع الرأي والرأي الآخر.
كذلك من المهم التأكيد على دورية عقد المستويات التنظيمية للحزب، باعتبارها الضمانة الرئيسة للعملية الديمقراطية والتجنيد السياسي، وذلك مقابل شكلية وتكلس وسطحية تلك المستويات حالياً، مما سيؤدي بلا شك لوجود كادر معطاء ومقاتل يسعى لمحاسبة القيادات الراهنة للأحزاب، ويتم ذلك كله عبر تغيير اللوائح ديمقراطياً، مما يهدف معه إلى دعم الثقة ومصداقية المواطن في الأحزاب، بدلاً عن الوضع الراهن الذي يصبح فيه الاستقلال عن الأحزاب هو القاعدة، والانضمام إليها هو الاستثناء.
إضافة إلى ما تقدم، من المفيد للغاية إعمال قواعد الشفافية والرقابة الكاملة على جميع المستويات الحزبية التنظيمية، لا سيما ما يتعلق بموازنة الحزب السياسي، بدلاً من حالة الفساد والإفساد، والذي أوصل عديد خلافات الأحزاب للتشظي والانقسام.