أما حكاية !!
طرادة حنان بلوبلو
إيهاب مادبو
خمسة وعشرين قرش “طرادة” كانت هي المشكلة التي شلت تفكيري تماماً وجعلتني أبحث عن حلول أخرى لحضور الحفل الساهر الذي تحييه المطربة الاستعراضية حنان بلو بلو بسينما كادقلي منتصف الثمانينات، ذاع صيت حنان بلوبلو كل الأمكنة وتجاوز مسافات المدن البعيدة ليسكن صوتها داخل كل البيوت السودانية بعد أن أوصدت كل الشبابيك ليكون اسمها هو الألمع وصوتها هو الأطرب من بين الأصوات النسائية آنذاك.
الدعاية الإعلامية التي صاحبت حضورها للمدينة كانت كافية لحشد جماهير كادقلي المتذوقة بطبيعتها للفن والموسيقى، فالمدينة بتضاريسها الرائعة أشبه بالنوتة الموسيقية أو تلك اللوحة المرسومة بريشة فنان ماهر، وقد سبقت الدعاية الإعلامية بوسترات حملت صورتها وتمعنت فيها جيداً لأشبع فضولي إذ كنت حينها شغوفاً بأغاني الدلوكة والسباتة.
اترسمت صورتها على مخيلتي من ذلك البوستر واستقرت إلى الىن بذات الألق متمردة على كل المتغيرات التي أحدثتها الحياة.
مذيع عربة الدعاية الإعلامية كان يمتلك معلومات مهمة عن بلوبلو وأضفى عليها نوعاً من الإثارة كانت كفيلة بتحريضي لحضور ذلك الحفل الذي تحييه مع فنان الشباب حينها زيدان إبراهيم الذي ارتبط اسمه بكادقلي إذ درس جزءاً من مراحله الدراسية بمدارسها وعلى ما أعتقد مدرسة كادقلي الشرقية الابتدائية.
وكادقلي في تلك الفترة كانت تضج بكل أنواع الروعة والدهشة، خرجت عربة الدعاية الإعلامية “اللاندروفر” من مبانى إدارة الإعلام ذات مساء شاحب الغيوم معلناً عن ذلك الحفل.
جماهير مدينة كادقلي الأوفياء عشاق الفن والرقص والاستعراض، أنتم على موعد مع الحفل الجماهيري الساهر الذي يحييه فنان الشباب زيدان إبراهيم والمطربة ذات الحنجرة الذهبية حناااااااااان بلوووووو بلووووو.. قالها هكذا.. بمد مساحات اسمها الحركي عن بعضها بجرس موسيقي.
هرولت نحو عربة الدعاية جازماً أن تكون بداخلها هكذا تصورت المشهد، فئات الدخول كانت “طرادة” خمسة وعشرين قرشاً، وكان مبلغاً بالنسبة الي صعب الحصول عليه فأنا ابن أسرة يشكل الرغيف لها وقتذاك نوعاً من الترف وأحياناً يكون “تحلية” متسيداً وجبة الغداء مرة في الشهر أو تزيد، بحثت عن كل السبل لكي أتمكن من حضور الحفل الساهر والأغنية التي رسخت بذهني “هل تدري يا نعسان” التي كتبها شاعر الروائع عتيق وتغنى بها ملك العود حسن عطية.
أكاد أجزم أن أفضل من تغنى بها العميري وبلوبلو، وقد حفظتها باكراً وتوسدت كل تفاصيل حياتي، فرحي وحزني، هدوئي وشغبي، صباحي وليلي، فما من واحدة أعجبت بها إلا وجعلت تلك الأغنية هي الصورة المؤثرة لتفاصيلها والمطبوعة صورتها على أوتارها، كنت بداخل نار تصلي شجوني ورغبتي المتمردة لحضور الحفل رغم انف كل الظروف والاحتمالات.
لم أيأس بعد وحينما أرخى الليل سدوله كان الجميع كالدراويش في حلقة ذكر يشتد إيقاع طبلهان الجميع متجه نحو سينما كادقلي، فهناك من قطع تذكرتين له ومحبوبته وهناك من اكتفى بنفسه، الشرطة حجزت مواقعها وهي على صهوة الخيل أو ما يطلق عليها شرطة “الصواري” لا أعرف إن كان الاسم صحيحاً، وقفت غرب السينما تماماً مقاصداً حي الموظفين الشرقي ومترقباً لمعجزة تمكنني من الدخول
السماء اكتست بالغيوم في ليلة فنية ساهرة تركت لسؤال دعاشاتها “الجو كيف” إجابة بداخل نصوص الجسد والموسيقى. اتسعت دائرة شرود والعازفين يبدأون بدوزنة الآلات الموسيقية إيذاناً بتفاصيل الحفلة.
أنا حالي ظاهر
شاعر مجيد لغناك فنانو ماهر
عاشق نبيل يا جميل ليك حبي طاهر
أهوى القمر والنيل بهوى الأزاهر
هل تدري يا نعسان
صوتها المنساب طراوة شق عنان السماء وفجر بداخل ثورة تمردت على كل ما تم اتخاذه من إجراءات من قبل الشرطة، تلفت يمين ويسار وشرق وغرب ثم فجأة وجدتها، ليست “الطرادة” ولكنها أغلى سعراً من الطرادة، كانت مباني السينما قد خصصت فيها مساحات بالاتجاه الغربي كحمامات، وقد كانت الحمامات في تلك الفترة عبارة عن “جردل” وهناك فتحة كبيرة تساعد في خروج الجردل في عملية الصرف الصحي.
نظرت بتمعن لتلك الفتحة، ثم هتفت في صمت حتى لا يسمع صوتي البوليس السري، تقدمت خطوات بذات إيقاع التمتم المصاحب للأغنية وبهدوء تام أخرجت الجردل خارجاً فهمته هنا دخول وخروج، ثم دخلت إلى داخل الحمام الذي كانت دائرة فتحته متسعة سمحت لي بالدخول، ثم فتحت بالباب كالشخص الذي خرج من قضاء حاجته وجلست أرضاً في المكان المخصص لما تعارف عليه باسم الشعب.
شخصك بديع يا وديع في عصرو نادر
حكم صفاك مولاىي ذو حكمة قادر
منشور هواك يا ضناي يا حبيبي صادر
ناكر شفاي وأراك على طبي قادر