ليلى المغربي: ابتلعت كل البلوم ثم غردت

 

بقلم صلاح شعيب

 

من بين سهام، وسنية، وإحسان، ونجاة، وهيام، وتيسير، فضلاً عن أشقائها الثلاثة كان لمحمود صالح المغربي أبنة أخرى – ولدت في الموردة – من أنجب بناته، وأولاده. حباها الله بصوت فريد، وحضور إذاعي، وتلفزيوني، واجتماعي، لا يجارى عند زمانها.

فقد عرف الناس الأستاذة ليلى المغربي في العصر الذهبي للإذاعة السودانية كواحدة من أميز مبدعات بلادنا من خلال “نفحات الصباح”، حيث كان لصوتها نبرة دافئة..متأنقة، وهي تصبح على الناس بكلمات ملؤها طلاوة النثر، والشعر.

ولكن لكونها ترعرعت في مجتمع ذكوري بامتياز لم تسلم ليلى المغربي من ثرثرة، وحسد النساء، والرجال، معاً. إذ يعتقد بعضنا أن كل امرأة كاتبة نابغة يُكتب لها ذكر متخفٍ. ولكن الإعلامية الفائقة الجمال سحقت ضعفهم البشري بقدراتها الإنسانية الفذة. فكانت امرأة عظيمة العطاء في مجالات الإعلام، والثقافة، والاجتماع. ولها أيضاً صولات رياضية مع رائدات السلة بنادي الهلال، ومساهمات مميزة في العمل المدني، بشقيه العام، والخاص.

فقد قالوا زوراً إن المجذوب كان يكتب لها، وأحياناً سند، ومرات عمها مبارك المغربي. ولكن لو جلست مع ليلى في حوار ٍعن صلاح عبد الصبور لخلت أنك تتحدث مع آمال عباس عن شاعرها المفضل. فآمال الأديبة لا تني من حفظ دواوين الشاعر المصري عن ظهر قلب:

أنا رجل من غمار الموالي،

فقير الأرومة، والمنبت

فلا حسبي ينتمي للسماء، و لا رفعتني لها ثروتي

ولدت كآلاف من يولدون،

بآلاف أيام هذا الوجود

لأن فقيراً ـ بذات مساء ـ سعي نحو حضن فقيرة، وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية.

في حوار أجريته مع أبو آمنة حامد سألته عنها فقال إنه يحب جداً “الليالي المغربية”، وأضاف “ياخي دي بلعت بلوم أمدرمان كلها” وذهب أكثر بأن قال إن صوتها يتجلع. فقلت له: استغفر الله، كيف أنشر هذه العبارة فتمدد في عنقريبه، وقال ساخرا بضحك: أنشرها على مسؤولية اللواء أح حرب حسن عبدالله الترابي رضي الله عنه، ولكني في تلك الأيام العصيبة لم أورد عبارته فأمضي.

أكثر من ثلاثة حوارات أجريتها مع ليلى، نشرتها في بدايات التسعينات في الخرطوم القاهرية، وآخر في ملحقها الرياضي الفني، وهناك حوار في صحيفة رياضية. ومع ذلك لا أملك أياً من هذه الحوارات. وليت الذاكرة تسعفني في تذكر إجاباتها المضفورة بأحلى عبارات النثر.

ليلى الشاعرة يشهد لها تعاونها مع عدد من الفنانين منهم شاويش “أنا ما جاييك”، وأحمد تاور الذي غنى لها “حياتي حلوة”، ولاحقاً ضمها تعاون مع وردي، وموصلي، ومصطفى، عبر العمل العملاق طفل العالم الثالث. وفي هذه القصيدة أظهرت ليلى اهتماماً بالغاً بقضية إنسانية ملحة تتعلق بأطفال عالم الجنوب، كما يسميه كلوفيس مقصود. إذ يغدو الارتهان الدائم للإغاثات مذمة لقتل الهمة الوطنية في الإنتاج، وبوار ملكية القرار السياسي. ولذلك جاء العمل الذي أنتجته شركة حصاد في منتصف التسعينات ليشكل نقلة حقيقة في النص، واللحن، والتوزيع الموسيقى. وقد زانه بهاءً أداء هؤلاء الفنانين الثلاثة الذين تداخلت أصواتهم لتمنح أغنيتنا ريادة في هذا النوع من الطرح الغنائي.

-٢-

أنا ما جاييك شايل أفراح تملأ الدنيا،

عطر الريحان شوق الحبان، وأجمل غنيه

بخلاف كتابتها لهذا الشعر العامي، والآخر الفصيح، كانت لليلى بصمة خاصة في إلقاء الشعر. تهدهد الكلمات على طريقة “هدهدة علي السقيد للغناء” كما وصفته في أحد حواراتي معها. وهكذا يتقاطر صوتها موالاً لدى النفس فترقيها في مدارج كمال الاستمتاع بفن الإلقاء الذي يتمثل نفثات الشعر، وآهاته الحرى، ودموعه التي تبلل ما بين سطور القصيد.

ليلى تميزت بالطموح في تطوير عملها الإعلامي باستمرار. ولم تكتف بالنجومية كما يفعل كثير من المبدعين في هذا المجال، فقد شاركت في دورات إعلامية تدريبية في عدد من البلدان الأوروبية، والأميركية، كما كانت تقرأ بنهم، وكثيراً ما تستفيد من رحلاتها الخارجية لتعود بعدد وافر من الكتب الجديدة في مختلف مجالات الحياة. وقد استفادت أيضاً من دراستها في جامعة الخرطوم في مجال التوثيق، والمكتبات.

ولذلك ساعدها التواصل في الاطلاع في تجويد حواراتها الإذاعية، وتقديم البرامج، التي حققت نسبة عالية من الاستمتاع. وكانت تختار ضيوفها بعناية فائقة، وندرك هذا سواء استمعت لحوارها مع نجيب محفوظ، أو الفيتوري، أو محمد المكي إبراهيم، وغيرهم. بل إن حواراتها مع أولئك الرموز الفكرية، والثقافية، والفنية، كانت تمنحهم زخماً أكبر نسبة لقدرتها على الانسراب إلى داخلهم بكثير من معرفتها بالمبدعين، وتاريخهم، حيث تستثير أسئلتها الذكية قدرتهم على البوح من جهة. ومن الجهة الأخرى تحقق تلك الحوارات قفزات لتعرف المتلقي بالمبدعين في كل مجالاتهم، خصوصاً أن هذه البرامج التي تقدمها ليلى تحظى بتقدير خاص من جمهور الإذاعة، والتلفزيون. ولعلك تحس من خلال حوارات ليلى أنها لا تكتفي فقط باسئلتها المعدة سلفاً باتقان، وإنما تجعل الحوار سجالياً، بحيث ألا تكتفي بالإجابة فقط. ولذلك تولد منها أسئلة كثيرة تدل على سعة أفقها بالضيف، وملفات الحوار معه.

-٣-

أنا طفل الإعانات، أنا جيل المعاناة

ويومي…ماله بعد، وعمري …ماله وعد

فكيف ترونها تبدو..بداياتي نهاياتي

وأرضع من شكاياتي..خيام الريح أبياتي

وأحجاري أثاثاتي

كذلك كانت ليلى تمتلك هماً معرفياً إنسانياً لإذاعية لم تكن مطالبة أبداً بقرض الشعر كلازمة لإبداعها المهني. ولكنها ربما خلفيتها الأسرية التي ألق بظلالها على إبداعها. فلا بد أنها تأثرت بعمها مبارك المغربي، كما هو حال أختها هيام التي رحلت معها في ذات الوقت، والتي كانت هي الأخرى تكتب النثر في صحف الثمانينات، وتقدم برامج ثقافية.

في زمان تراجعت فيه المواهب في كل المجالات لم تأت مبدعات في المجال ليتجاوزن إمكانيات ليلى الإعلامية، والأدبية المهولة. ذلك برغم وجود عدد هائل من الإعلاميات اللائي وجدن فرصاً أفضل من حيث التأهيل الأكاديمي، والفرص الواسعة للظهور والمشاهدة. ضف إلى هذا صعود الوعي الجمعي، والفردي، وتوفر مباحث المعرفة، وسهولة الحصول على المعلومة، وتطور الأجهزة الاتصالية، وتقدم تقنيات، وصناعات الإعلام بمختلف أنواعه.

فما تزال ليلي المغربي من أكثر المبدعات اللائي امتلكن حضوراً خلال العمل الإذاعي، والتلفزيوني، رغم وفاتها قبل عقدين من الزمان تقريباً.

والمدعاة لفرادتها أنها لم تراهن على جمالها الذي زفها للدخول عبر بوابة الإذاعة فحسب، وإنما أيضاً روحها النبيلة، وثقافتها العالية، وتجربتها الثرة التي تراكمت عبر الجهازين لتتوفق في أن تكون أميرة المايكرفون في زمانها بلا منافس.

ليلى، بجانب شقيقتها الإذاعية المجيدة سهام التي كانت تقدم نشرة الأخبار بالإذاعة، والتلفزيون، بإلاضافة إلى هيام، كن إضافات قيمة للعمل الإذاعي، والتلفزيوني، والأدب، والشعر، والغناء. ومع ضعف تواصل المستمعين مع الإذاعة، وتصاعد دور الفضائيات، أتمنى من بعض أبنائنا، وبناتنا الجدد – بجانب الاعتناء بالشكل – أن يتقفين آثار هذه القامات الإعلاميات المثمرة لتجويد ثقافتهن، ومعرفتهم. والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.