إنَّ من أشق و أرهق الأفعال إلى النفس
أن تتوخى ( الاعتدال ) و أنت تتحدث
عن إنسان تُحِبه أو آخر تبغضه ، فإنك
في الحالتين ترجو ( الله ) أن يعصمك
من ( تَجاوُزِ الحد ) و أنت تُقبل على
من تُحِب ، و يعصِمُك من ( تَجاوُزِ الحد ) و أنت تَنْأى عمَّن تبغض ..
و أنت تُقْبِلُ على من تُحب ، فإن ( الاعتدال ) لا يعني غمط الحق ،
لكنه إظهار الحق بحق و حقيقة
و استحقاق ..
و هذا ما أجدني أكثر حرصاً عليه و أنا أكتب هذا المقال بعنوان ..
( جمال الوالي … النُّضَار … ) ..
و النُّضَار هو الخالص من كل شائبةٍ
و زِيف ..
ذَهَبٌ نُضَارٌ ، و وجه نُضار ، و نفسٌ نُضار ، و ( جَمالٌ ) نُضار ..
و ( جمالٌ ) نُضارٌ يعني ( الحُسنَ )
الخالص ..
لكني أعني به هنا ، ( جمال بن محمد بن عبدالله الوالي ) الخالص ..
الخالص من كل شَيْنٍ و دَرَنٍ و وهَن ،
إلا ما يعتري ابن آدم من نقائصَ فُطِرَ عليها ، ذلك أن الكمال لله وحده ،
و المعصوم رسولنا الكريم وحده ..
و هكذا هوَ عندي ..
و هكذا هو عند من عرفه و خالطه ..
و عندما غُيِّب يوماً قَسْراً ، قلت إن
( جمال )حين توارى في تلك الغَيَابَة ، تبين للقاصي و الداني ، كم أن الرجل محبوبٌ و مُقِيمٌ في القلوب ..
إنني منذ أن عرفته فهو ( جمال ) النبيل ..
رفيق ، و رقيق ، و شفيق ، و أنيق ،
و ذو وجهٍ طليق ..
يجتهد في إنفاق ما يأتيه من مال ٍ،
حتى تكاد تشفق عليه و تقول لسائله :
إتق الله فيه ..
و تجده يسبقك إلى المسرات ،
و هو في الصدارة عند كل نازلة ..
حتى وهو بعيد ، يسبقك بالسؤال ،
و الإتصال ، و تفقُّد الأحوال ، و بذل
النوال ..
يعني في كل شأن هو ..
أمام ٌ، و إمامٌ ، و مِقدام ، و قِدااام ..
نعم ..
إني لأشهد أنه كان دائم الإنفاق ، سِراً
و علانية ..
إذا أقبل ، و طبعُه الإقبال ، فإنه
كالسحابة الوطفاء المِدرارة ، يُعطي
عطاء من تظن أنه قد آثرك بما لم
يؤثرك به أحدٌ من قبل ..
و كان لا يأتي هذا الصنيع عن حال
من يجلس على خزائن من ( ذهبٍ )
و ( دولار ) ، كما يظن الكثيرون ..
و لكنه ..
و كما أعلم عنه ، فقد كان كثيراً ما يُمسي وهو خالي الوفاض ، إلا من
يقينٍ راسخٍ بأن المال غادٍ و رائح ٌ،
و يبقى من المال الأجرُ و الأحاديثُ
و الذكر ..
كان دائماً يقول لي : ( أنا ما بقدر
أقول لي زول ما عندي و أنا عندي ) ..
و أذكر أنه في لقاءٍ ( ببيت الضيافة ) ،
ضم الرئيس الأسبق ( عمر البشير ) ،
و جَمعٌ من المغتربين ، قال لهم
( البشير ) عندما أشار أحدهم ( لجمال ) :
( يا جماعه جمال ده ماغَنِي ، لكنه
سخي ) ..
وفعلاً ..
تجده ( مَعْبَراً ) للمال و ليس (خازِناً ) ..
فمايأخذه من هناك ينفقه هنا ..
و ما يأخذه من ذاك يمنحه هذا ..
و إن لم يكن يملك ، فإنه يستدين
من أولئك لينفق على هؤلاء ..
و تجده في ذلك وَرِعاً عفيفاً ، لايأخذ
إلا بحق لينفق في حق ..
و لعله طيلة الفترة التي قضاها رئيساً لمجلس إدارة ( بنك الثروة الحيوانية ) ، فقد دخله نظيفاً و خرج منه أنظف ، لم يتقاضى أتعاباً عن ذلك التكليف ، و لم يقترض من البنك مليماً و احداً ، و من حقه ذلك ، كما يفعل معظم رؤساء مجالس إدارات البنوك ، و من ساوره شكٌ في قولي فليذهب إلى البنك
و ليسأل كما فعل البعض من قبل ، وهم يسارعون سؤالاً و نبشاً علَّهم يجدون مَذَمَةً يطيرون بها في الآفاق ..
و على هذا فقِس ، إذ أنه في كل
تعاملاته المالية يَتَحَرَّى الحلال ،
و يَتَقي الشُّبُهات ..
كان يحرص في كل موسم حج على
استئجار طائرة يحمل على متنها
فوجاً من الحجيج ، تجد بينهم ،
القريب إليه و البعيد منه ، الميسور
و الفقير ، ومن لم يكن يتوقع أن
يناديه المُنادي بهذه السرعه و هذا
اليسر ..
و تجده يسهر على راحتهم و ينشط
في خدمتهم و يحمل هم كل واحدٍ
منهم ..
و كنت مرة واحداً من هؤلاء ..
وترافقنا ونحن نؤدي مناسك هذه
الشعيرة ، وفي طريق عودتنا من
( عرفات ) راجِلين إلى ( مُزدلِفة ) ،
ثمَّ إلى ( مِنى ) ، و عند رمي ( الجمرات ) ، و ( الطواف ) ، كنت
أجده دائماً أمامي مُنطَلِقاً لا يلوى
على شيء ، و لم تفلح معه كل
محاولاتي في مُحاذاته ، مما جعلني
أُحَدِّث نفسي بأن ( جمالاً ) يشُق
عليك أن تسبقه في كل حالٍ و مآل
و مجال ، إذ أنه سابق في الخيرات ،
و بالخيرات نحو الخيرات ..
و كنت أُغْبِطُه ..
و الغِبطَة نقيض الحسد ..
الحسد أن تتمنى زوال النعمة من غيرك ..
و الغبطة أن تتمنى أن يكون لك مثل
ما لأخيك ، ولا يزول عنه خيره بل يزيد ..
ما أصاب الداء حبيباً لديه ، أو وقف
ببابه ذو عِلَةٍ ، أو تناهى إليه خبرُ مريضٍ
إلا و أسرع إليه ، و كان الطبيب المؤازرا ، قبل الطبيب المُدَاويَّا ..
و إبان فترة عملي ( في مصر ) ، و لفترة
تقارب الأربعة أعوام ، كان لا يمر بي وقت إلا و يزفُّ لي مريضاً أو أكثر ،
و كان يتابع مسيرة علاجهم صباحاً
و عَشِية ، فأتعب أنا و لا يتعب هو ،
و يناقشني بدرايةٍ في طبيعة العِلة
و ما يُناسبها من علاج و دواء ، و لعل
ذلك يعود إلى كثرة متابعته لمثل هذه
الحالات ، أو مما يتعلمه من حرمه
الطبيب الإختصاصي دكتوره ( نعمه
إبراهيم حسن النعيم ) ، و هي شقيقة
الدكتوره ( كوثر إبراهيم ) حرم الأرباب
( صلاح أحمد إدريس ) ..
و لقد شهدته عياناً ، و نحن في ( دبي ) عندما باغت الداء صديقنا ( عبدالعزيز برجاس ) ، فأسرع بنقله إلى مستشفى (سليمان الحبيب ) ، و رابعنا الوجيه ( أحمد القاسم ) ، سادِن ( الذهب )
و ( النفائس ) ، و رأيت ( جمال ) يلاحق الأطباء بالسؤال إشفاقاً ، حتى أنني كنت أشفق عليهما ، و عندما قرر الطبيب تنويمه ، و لأن في ذلك مخاطرة ، فقد كان يرجو الطبيب أن يتريث ريثما يفعل و يفعل ، إلا أن الطبيب لجأ إليَّ فأذنت له ، و بعدها غاب ( برجاس ) عن الدنيا ( ثلاثين يوماً ) حُسوما ، حتى ظننا أنه لن يعود إلى الحياة الدنيا بعد هذا الغياب الطويل ، و ظل ( جمال ) مُلازماً له ، ملازمة الود و العُشرة و المحبة التي انعقدت بينهما ..
و في يومٍ زارنا أحد شباب ( المريخ ) وهو يعمل و يسكن في ( الشارقه ) ،
و في المساء بلغ ( جمال ) أنه قد
أُدخل ( مستشفى الشارقه ) ، لإجراء
جراحه عاجله في القلب ، وهو مستشفى فخيم لا ينقصه شيئاً ، فما كان منه إلا أن وجه بنقله في تلك الليله ، إلى ( مستشفى سليمان الحبيب
الخاص ) في ( دبي ) ، حيث يرقد
( برجاس ) ، و أرسل إسعافاً ، رافقه أخي ( صديق كوباني ) ، و جاء به ،
على مقرُبةٍ من الفجر ، و أجريت له العمليه على أعجل ما يكون ..
و هو دائماً في مثل هذه الحالات
يجتهد و يتفانى في فعل و تقديم
الأفضل و الأجدى و الأنفع ، مهما
كلفه ذلك ..
و ليس ذلك و قفاً على العلاج ، فقد
شهدته و خبرته ..
فهو يجود عليك بالأحب إلى نفسه ،
و يمنحك مما يحب أن يقتني لنفسه ،
و يُحب لك ما يحبه لنفسه و أكثر ..
لا يَسْتَكثِرُ مالاً
و لا يدَخِر وسعاً
و لا وقتاً
و لا يحجِب وُداً و مَعَزَةً ..
و أنا واحدٌ من أولئك الذين غمرتهم
هذه النفحات ، و هذه اللطائف ..
ورد عن الشيخ ( محي الدين بن عربي )
أنه قال : ( لن تبلغ من الدين شيئاً حتى
توَقِّرَ جميع الخلائق ) ..
و لقد رأيت من ( جمال ) توقيراً للناس
لا يقدر عليه إلا أولو العزم ، ممن فاضت قلوبهم بالمحبة و الرضى
و اليقين ..
و هي محبة ، و رضى ، يتدفقان من
قلبه فيغمران مَنْ حوله ..
و لقد رأيت ذلك رأي العين ..
إذ أنه لم يكن يضيق بأحدٍ
و لم يكن يرُدُّ أحداً ..
على كثرة من يُلاقي
و على كثرة ما يطلُبُهُ مَنْ يُلاقي
و على كثرة ما يُلاقي مِمَّن يُلاقي ..
كنت أنا أجد في كل وقت أمام داره جمعاًمن أصحاب المآرب و الحاجات
يتزاحمون بالمناكب ، حتى أن أحدهم كان يظُن أو يُرَوِّج لأن هذا ( مستشفى )
و ليس مسكناً ، فقلت له : ( لماذا تدعهم يتجمهرون أمام المنزل
و فيهم و فيهم ، و قد ينالك منهم ما لايسر ) ، فقال لي : ( خليهم ، مافي حاجه بتحصل ) ، و هو يعرف جيداً
أن بينهم و بينهم وبينهم ..
و ذات مرة طلب منه أحدُهم أن
يَكُف عطاءه عن ( فلان ) ، فهو علاوةً
على أنه ميسور الحال ، فهو أيضاً ممن
يسيئون التصرف ، فكان رده أنه يعلم
ذلك ، و تمادى في وصله له و جزيل صِلاته ..
و مرة حكى لي ضاحكاً أن أحد أقربائه قال له : ( إنت كده بتْكَمِل قروشك ، طيب مادام مُصِر ماتدي طوااالي ، مَطْوِح الواحد شويه ، تعالي بكره ، أنا مسافر ، أو أي عذر ، عشان الواحد ما ياخد بالساااهل كده ) ..
و ضحِكنا ..
و بالطبع لم يفعل ذلك
لأنه لم يكن بطبعه كذلك ..
و أنا أعلم جيداً أنه يُعطي أناساً هم
أفضل حالاً منه و أغنى ..
و يعطي كثيراً و غزيراً و بلا انقطاع ،
حتى أنني مرة قلت له ، بدلاً من أن
تهَب و احداً كل هذا فاجعله لإثنين
أو ثلاثة ، فما استجاب و أعارني أُذُناً صماء ..
لم يكن يطيع أحداً أبداً ..
في منْ يُعطي
و كم يُعطي
و كيف يُعطي
و أين يُعطي ..
و ما رأيت أحداً مُبَرَءاً من شُحِ النفسِ مثل ( جمال ) ..
و هوَ عندما يُسأل لا يقول ( لا )
و في الدنيِّةِ لا تسمع منه غير ( لا ) ..
ذلك أنه قد جُبِل على أن يرى القبيح
قبيحاً و الجميل جميلاً ..
و أنا أخالط الناس كثيراً ، فما أن تأتي
سيرة ( جمال ) ، حتى تجد من يقول ..
عالجني أو عالج ( فُلان ) ..
أقال عثرتي أو عثرة ( فُلان )
برَني أو برَ ( فُلان ) ..
شاركنا في كذا ..
و جاءنا في كذا ..
و اتصل بنا في كذا ..
نعم ..
و أذكر هنا ، و أنا بمعيته بفندق ( قراند
حياة دبي ) ، حيث إنضم إلينا الطبيب