ضد زبد الكراهية وتيار التجهيل السياسي: المؤسسة العسكرية ليست العدو

 

صديق محمد عثمان

– لأكثر من ستين عاماً ظلت المؤسسة العسكرية تقاتل دون المساومة المركزية لأنهم أفهموها أنها مساومة (قومية) وأن المارقين عليها متمردين.

– بينما النخب السياسية المركزية مشغولة بالصراع بينها أيهم أولى بكيكة السلطة وعندما يعجزون عن التوافق أو حسم صراعهم يلجأ طرف منهم إلى المؤسسة العسكرية فيحسم بها صراعه مع الآخرين، ثم يجلس على كرسي الحكم والمؤسسة العسكرية ملتزمة بحماية الكرسي أياً كان الجالس عليه، التزمت بحماية انقلاب حزب الأمة في ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م، والتزمت بحماية انقلاب اللجنة المركزية للحزب العجوز في ٢٥ مايو ١٩٦٩م، والتزمت بحماية انقلاب الحركة الإسلامية في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م.

– في جميع المراحل قاتلت المؤسسة العسكرية المتمردين على مساومة معلولة ومعطوبة ولسان حالها أن الأمن والاستقرار مقدم على تجويد المساومة وإصلاح النظام السياسي وأن حكم الأقلية أفضل من الفوضى على كل حال.

– كانت النتيجة أن المؤسسة العسكرية وجدت نفسها ترعى مصالح الحكم وتباشر في أغلب الفترات مسؤولياته، بينما السياسيون عاجزين عن إنجاز أي إصلاح سياسي يمهد الطريق للتوافق ويؤسس لسلطة أغلبية بديلة عن سلطة الأقلية المركزية المسكونة بوهم حقها المطلق في وراثة المستعمر على الحكم المؤسس على جباية الأموال لتحقيق رفاهية الأقلية.

– فكانت النتيجة أن المؤسسة العسكرية هي التي ظلت تفاوض من أجل السلام وتحرس القليل الذي تحقق من التنمية وفي هذا الإجراء ظلت علاقاتها بأطراف المجتمع تتسع ومعرفتها بتنوعه تضطرد بينما القادة السياسيون المترفون في المركز لا تتجاوز معارف ومهارات الواحد منهم الحدود الدنيا لمقومات النرجسية الذاتية وألقاب الزور والتدليس.. تطورت علاقة الموسسة العسكرية بمن تقاتلهم من قادة (المتمردين) ومجتمعاتهم من علاقة قتال ومشاحنة إلى علاقات تعاون وتفاهم ففي خضم القتال كانت المؤسسة العسكرية قادرة على اجتذاب ويليام نون ورياك مشار وخميس جلاب وبحر أبو قردة ومني أركو مناوي وغيرهم من مشارف اليأس الذي يقود إلى بيع بندقية النضال إلى متون الصراع السياسي فقط ليصطدم كل واحد منهم بعقول إخوانه السياسيين المحدودة وأطماعهم الصغيرة.

– بينما ظلت المؤسسة العسكرية الأوسع تمثيلاً لفسيفساء المجتمع ظلت مواعين الأحزاب والقوى السياسية تضيق عن استيعاب أبناء البيت الواحد الذي تأسس عليه الحزب الواحد، فظللنا نشاهد تمرد بري الشريف على حلة حمد وما بينهما سوى النهر، وعشنا تدابر الملازمين وود نوباوي. حتى حزيبات (الوحدة العربية) المزعومة على قلة منتسبيها استطاعت بمهارة كبيرة جداً قسمة الصفر على قيادات مجهرية.

– بل حتى الحركة الوحيدة التي استطاعت اختراق هذا الفشل وتأسيس نموذج للعمل السياسي المؤسسي واشترطت عليه مصالحتها لحكومة مايو وأنجزت مشروعاً ضخماً للتمكين المجتمعي والتأسيس الفكري وإخراج الدين من مجاهل طاعة ولي الأمر إلى سوح الشورى والديمقراطية والنظم السلطانية والحوكمة في التنظيم والإدارة والحرية في المبادرة فانطلق أفرادها ومؤسساتها وكياناتها يملأون الأرض من موزمبيق إلى بيشاور ومن ماليزيا إلى سان فرانسيسكو وحيثما حلوا أصبحوا رأساً لإخوانهم من المسلمين في وكالات الإغاثة أو منظمات الرعاية الصحية والاجتماعية أو مؤسسات الاقتصاد والمال الإسلامي. حتى هذه الحركة تسلل اليها داء النخبوية فخرج من أصلابها من أغلق عليها الباب وخفض سقف كيانها إلى (كيان خاص) وانتزع مفاتيح المبادرة وشهادة بحث الحرية ووضعها تحت وسادته.

– لقد عادت أسراب (القيادات) السياسية من المنافي إلى كراسي سلطة عمر البشير كما فعلوا من قبل مع النميري فظلت أعينهم مثبتة إلى كرسيه ينتظرون سانحة موته أو غفلته عنه ليقفزوا فوقه، بينما قواعد المجتمع كانت تنازع في أمور كان ينبغي أن هؤلاء القادة السياسيين قد استحقوا مكانتهم بسبب وقوفهم عليها ودفاعهم عنها ومثابرتهم لتحقيقها، فلما ذهب حكم البشير وقام عن كرسيه لم يستطع أي من (القادة) السياسيين العودة إلى قواعد المجتمع هذه ليقدم لهم كتاب إنجازاته وحسابات نضاله، بل شاهدناهم يحرصون على رفع تقاريرهم إلى من يعتقدون أنهم مصدر مشروعيتهم السياسية ومنبع أصولهم الفكرية فأصبح مسرح التنافس ليس رفع الحريات فوق رأس الشعب وتنظيم مبادراته والمشاركة في نفيره، بل إغلاق مؤسساته المدنية الحرة المستقلة ومصادرة منابر أعلامه فضاق الفضاء وعلى ضيقه نفثوا فيه أبخرة نفوسهم التي قتلت جذوة الثورة وعنفوان الرغبة في التغيير والتحول الديمقراطي.

– وكما أدركت المؤسسة العسكرية بعد تجارب مريرة وقاسية أن (المتمردين) من أبناء الوطن ليسو أعداء وأن المساومة المركزية التي تدافع عنها ليست مثالية ولا مقدسة، فقد بدأ وعيها يتسع بأنها ليست طرفاً في الصراع الحزبي لأحزاب النخب المركزية أو انقسامات البيوتات وريثة الحظوة الاستعمارية، مهما يصر بعض السياسيين على الاستمرار في الحفل التنكري وخطاب وأساليب الإغراء والإغواء الزائفة التي تتزلف الى حميدتي (الراجل الضكران) والبرهان (القائد المحنك) أو النقيب حامد (الجامد).

– المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية ليست عدواً فلا تتخذوها عدواً لأنها مؤسسات الشعب كل الشعب وهي مهما اتسع صدرها لصراعاتكم الصغيرة وامتد صبرها ليشمل جهالات من يعتقد أنه قد أصبح سيداً عليها فقط لأنه استغفل بقية إخوانه السياسيين وجلس على كرسي السلطة، فقد ظلت المؤسسة الأكثر قدرة على عجم غلواء الانتماء المحدود عند أفرادها ورفع عزائمهم إلى مستوى الوطن وليس الحزب أو القبيلة أو أي انتماء يتقاطع مع الولاء الوطني الأرفع.

– والصراع الآن ليس صراعاً بين عسكر ومدنيين أو ديمقراطيون وديكتاتوريين أو محافظين وليبراليين فقد شهدنا أفكار الديمقراطية ومفاهيم الليبرالية حتى أصبحت مرادفاً للانحلال والخنوع ومصداق الدارونية القردية، وإنما الصراع بين مجهودات تحقيق معاني الاستقلال التي غفل عنها المستلبون فكرياً وبين محاولات تزيين العبودية الحضارية.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب