أما حكاية
قبر ناصية
إيهاب مادبو
يقول الشاعر أحمد شوقي في واحدة من أعظم قصائده ذات الحكم الإنسانية
“إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا”
أمس الأول كنت في زيارة إلى تخوم هامش أم درمان تلك المدينة التي تمددت لتصبح قريبة أقاليم البلاد أحد الأحياء التي تشكل مدينة أم درمان بعد الهجرة السكانية من الريف بسبب الظروف المحيطة بالإنسان التي أجبرته على ترك الأرياف مرغماً والاستقرار بأطراف أم درمان.
ذهبت إلى هناك لتقديم واجب العزاء لوالد زميل دراسة وهي المرة الأولى التي أزور فيها تلك المساحة الجغرافية المنسية من قاموس السلطة وخطابات السياسيين والبيانات الصاخبة للناشطين والفاعلين في مسرح الأحداث والفعل السياسي.
فبينما كانت تمخر العربة التي تقلنا عباب الصحراء كنت أفكر كثيراً عن الأسباب الموضوعية للهجرة السكانية نحو العاصمة!! وهل يا ترى وضعت نخبنا السياسية والعسكرية قضايا هؤلاء المواطنين على طاولة أجندتهم في مناقشة الأزمة المتعلقة بقضايا الوطن!!
وصلنا بعد أن استغرقنا ساعات وقد أنهكنا الإرهاق نسبة لرداءة الطريق غير المسفلت وجلست مع صديقي ومجموعة من أقاربه ومعارفهم وقد تحدثوا بأسى بالغ عن القبور التي صارت مثل بيوت الإيجار بعد ارتفاع رسوم القبر الجاهز
سألته باستغراب عن حقيقة الأمر، وهل هناك بالفعل مقابر تجارية أو بالأحرى، هل هناك قبور للبيع؟ وهل هناك عقارات متخصصة في مثل هذا النوع من الاستثمار!! وأي بشر هؤلاء وقد قفز إلى ذهني سؤال الأديب السوداني الطيب صالح عن الإخوان المسلمون حينما قذف بسؤاله من أين أتى هؤلاء!!
أجابني صديقي بالحقيقة الصادمة وأنه بالفعل هنالك مجموعة من الشباب تقوم بتجهيز القبر وماء الدفن بمبلغ يتراوح ما بين الـ(30) ألف إلى (40) ألف، وهم موجودين بالمقابر حتى وقت متأخر من الليل.
في ذات مرة سمعت أن بعض أثرياء الخرطوم يقومون باستئجار (نائحات) للبكاء وكنت أظن حينها أن الأمر لا يعدو عن كونه نوعاً من الدراما ومسرح النكتة الساخرة التي اشتهر بها السودانيون فى مجالسهم ومنتدياتهم حتى باتت النكتة وسيلة للتكسب وأكل العيش.
تحسرت للحالة والدرك السحيق الذي تتدحرج إليه الدولة وتلاشي قيمنا وأخلاقنا السودانية التي تميزنا بها عن غيرنا من الشعوب في المروءة والنفير والتضامن لتخفيف الآلام عن المصاب بالاحتواء الإنساني المشبع بتقاليدنا التي شكلت تضاريس علائقنا الاجتماعية والثقافية.
الى أي هاوية سحيقة نحن نتجه وفي الأثر الإسلامي (إكرام الميت دفنه)، بل حتى كل الديانات اهتمت بكرامة الميت عدا الهندوس الذين يقومون بإحراق ميتهم والاحتفاظ به (هبود) أو رماد النار وغير ذلك فإن الموت يجب أن لا يدخل إلى دنيا الاستثمار كآخر ما تبقى من أنواع الاستثمار بعد أن تم الاستثمار في الأحياء حتى استغاثوا..
عابدين درمة بالرغم من الانتقاد الذي يواجه إلا أنه يمثل رأس مال لقيمنا وتقاليدنا السودانوية التي تموضعت عليها مجاميعنا الثقافية والاجتماعية وظل ملتزماً بتلك القيم الإنسانية الرفيعة رغم أنف الظروف ومتغيرات الحياة وهو الأمر الذي يجب أن نحفزه عليه لتتوارثه الأجيال لتخلد تلك الأعمال العظيمة في ذاكرتنا الشعبية كأعظم ما أنتجه شعبنا من قيم وأخلاق.