الموتى.. أحياناً يتكلمون

شيء في سطري

إبراهيم أحمد الحسن

الموتى.. أحياناً يتكلمون

“أمنع الكلام” رفع الأستاذ صوته ليَزْجُر مجموعة من الطلاب تحلقوا حول فنان منهم بدأ يغني، احتدمت الصفقة وتعالى الإيقاع بنقر المساطر على الأدراج وضرب أقلام الرصاص على حواف الكنب وارتفعت الأصوات المشروخة تغني لإبراهيم الكاشف رحلة فوق طيات السحاب.

كانت الحصة فنون جميلة موضوعاتها الرسم دون غيره من ضروب الفنون، ولكن أبى هؤلاء الأشقياء الا أن يضيفوا الى الرسم الغناء والموسيقى وقد درج الأستاذ المتسامح أن يقول لطلابه في بداية الحصة: “ارسم لوحة من الطبيعة”، ثم ينصرف عنهم بعيداً بخيالٍ جامح وشرود بعيد وهو جالس في مقدمة الفصل، لا يرجع الى الواقع ولا يعود اليهم الا إذا أيقظه الصياح من غفوته العميقة. ولكن ما أيقظه هذه المرة صرخة داوية أعقبها صمت مطبق، صرخ الطالب الذي كان يغني بكلمة واحدة: مات!! رددها خلفه الطلاب الذين كانوا يغنون معه: مااات؟. ثم أطبق الصمت. سقط طالب كان يرقص في طرب من كرسي حاول تسلق حافته العليا ليستعرض مهارته في الرقص على حافة الهاوية، فسقط ميتاً حسب الطالب الفنان وجَوْقَته الموسيقيّة، ولكن الأستاذ الذي اندفع الى نهاية الفصل قام بإنعاش الطالب الميت فإذا به يعود الى الوعي ثم يصيح أنا وين؟.

يظل السؤال الأهم هل يتكلم الموتى؟ نعم وفي حالات نادرة جداً تكلم الموتى، أولاها في حالة الطالب الميت في خلد رفقائه الذين رقص معهم على الهاوية لأنه أصلاً لم يكُ ميتاً وإنما فاقداً لوعيه الذي أعاده اليه الأستاذ بعد عملية غنعاش أجاد اتباع طرائقها. ثانيها الميت الذي عاد للحياة ذلك لأنه لم يمت أصلاً، وقد تكلم بعد الموت نتيجة لتشخيص خاطئ لحالته الصحية المتأخرة فألحقه الطبيب الذي أجرى التشخيص الأخير، بعداد الموتى وقرأ مع أهله الفاتحة على روحه فأراحهم وارتاح هو وأراح المريض الميت في دفاتر الطبيب. ولم يلبث هذا المريض الميت أن تكلم أو صدرت منه حركة أثناء مراسم إعداده للدفن مما يتطلب إعادته ثانية للمستشفى لتأكيد حالته المتأرجحة بين الموت والحياة.

في حالة أخرى تكلمت المرأة، بل وعاشت بعد تحرير شهادة وفاتها عشر سنين بالتمام والكمال، مما يروى أنه عندما توفيت هذه المرأة، حملوها مسرعين إلى المقابر وعندما أضحت على شفا حفرةِ القبر، اصطدمت مقدمة الموكب المسرع والذي كان يحمل النعش بعمود إنارة داخل المقابر فإذا بالمرأة تصحو من غفوة موتها وتصيح بالمشيعين: الى أين أنتم بي ذاهبون؟ أنا هنا لست بصدد ولا حاجة لي لوصف ما جرى لأرتال المشيعين والمعزين فهذا شأن آخر يضيق عليه حيز السرد هذا وموضوعه. ولكن خلاصة الأمر أن المرأة عادت الى بيتها عزيزة مكرمة بعد أن ذهبوا بها الى المستشفى حيث وبَّخ زوجها الطبيب على سوء تشخيصه واستعجاله في تحرير شهادة الوفاة. الزوج عانى من زوجته الأمرين إبان حياتها الأولى، عاد بها الى البيت تثرثر وهو يلعن سنسفيل أجداد عمود الإنارة.

بعد عشرة سنين من الحياة الطويلة توفت الزوجة هذه المرة وفاة حقيقية ونهائية، قلبها الأطباء ذات اليمين وذات الشمال وتلمسوا الأسباب بحثاً عن تأكيد قطعي للوفاة وزوجها في الخارج ينتظر باسطاً يديه بالفاتحة في وجه أول من يأتيه بالخبر اليقين، الطبيب أكد الوفاة كحكم وسط مقتدر وخبير بجس النبض وأكد ذلك بـ(فار) أجهزة القياس والرصد والكشف الطبي، ثم أشار إلى وسط ملعب الحياة حالة موت حقيقي ونهائي لا رجعة عنه، مرت الميتة بكافة مراحل التأكيد والتحقق ثم مراسم الإعداد للدفن ولم تتكلم أو يصدر منها ما يشي بأنها ستعود للحياة مرة ثالثة، كما فعلتها في المرة السابقة حين اصطدم النعش بعامود الإنارة، تقول الحكاية الطريفة إن الرجل في هذه المرة كان يجري أمام موكب الجنازة وهو يصيح بأعلى صوته: (أوعوا العامود.. إياكم والعمود).

وكما أنه لا ينسب لساكت كلام، والميت ساكت في صمته الأبدي الا أن الفلم الأمريكي (الرجال الموتى لا يحكون الحكايات) فقد تجاوز مرحلة الكلام الى الفعل، حين قام بطل قصته بإطلاق سراح مجموعة من أكثر أشباح القراصنة الموتى خطراً في منطقة أسموها مثلث الشيطان، وجعل هؤلاء الأشباح كما صورهم الفلم يقومون بالهجوم على القراصنة الموجودين في البحر على امتداد طوله وعرضه، حينها صار الموتى الأشباح لا يتكلمون ويحكون الحكايات فحسب، بل يصنعونها في رعب حقيقي وإثارة تدور حولها الحكاية، حكاية الشبح أبو فانوس لا تزال تتردد أصداؤها في القرى والأماكن البعيدة حيث نسجت الحكايات الشعبية أساطير عديدة في مقابر شتى حين يكون بطل الحكاية ميتاً عاد الى الحياة بعد دفنه، ثم صار يحمل فانوساً في يديه يجول به المقابر والأماكن النائية، وفي مرات قليلة يزور أماكن كان يتردد عليها إبان حياته الأولى حيث يقابل بعض الناس الذين يؤكدون ويقسمون أنهم رأوا فلان الذي مات قبل فترة يتجول في ساعة متأخرة من الليل جوار (زنك الخضار) حيث كان يعمل أو أنى مكان عمله الذي كان يقتات منه في دنياه.

إن أنسى فلن أنسى حكايات البعاتي التي كانت تشق مسامعنا وتصيبنا ونحن صغار بحالة من الرعب وخاصة عندما تُسَيْطر دراما الرعب وتتماسك حبكة إثارة الخوف التي كانت تتقمص شخصية الراوي وتتلبسه حد التماهي. إذ أنه في ذات ليلة من الليالي حكى لنا راوي الرعب قصة البعاتي الذي خرج من المقبرة في الساعات الأخيرة من الليل وبالقرب من المقابر وجد جزاراً يذبح خروفاً أقرناً فعرض عليه المساعدة، قبل الجزار العرض من الغريب عابر الطريق بأريحية وسرور، عمل الغريب بهمة ونشاط في مساعدة الجزار وعندما وصل الجزار الى مرحلة تقطيع اللحم، أمسك الجزار سكينة حادة الشفرة ماضية وجعل الغريب يساعده في التقطيع بمسك اللحم. لاحظ الجزار أن الغريب لا يقوى على مسك اللحم، وكل مرة تفلت منه قطعة اللحم وتسقط على الصينية وعندما تكرر هذا الأمر عدة مرات صاح به الجزار، لماذا لا تستطيع الإمساك باللحم؟ ماذا دهى يدك؟ لماذا هي ضعيفة الى هذا الحد؟ رد الغريب بأن السبب هو (الأرضة) التي أكلت يده في القبر ولم تترك له سوى جلد ناشف وعضم متفتت وواهن!! بالطبع لم يطلق الجزار ساقيه للريح فحسب بل سابق (الريح والقطر)، كما تقول الأغنية الشهيرة، ويقول راوي دراما الرعب إن الجزار تم العثور عليه بعد أيام ثلاثة وعليه أسمال بالية، وهو يهزي بالبعاتي، أما نحن الصغار – وقتها – فقد كان علينا أن نجد طريقنا الى النوم بعيداً عن كوابيس (البعاتي)، وراوي دراما الرعب التعيس!!

البعاتي في رسمه التقليدي في وسمه وصورته الذهنية التي صورها مبتدعو دراما الرعب أنه كان في صوته بحة وغنة، ذياك هو بطل حكايات الستينيات والسبعينيات ولإضافة مزيد من الإثارة والرعب يجعله راوي دراما الرعب يردد واحدة من الأغنيات المشهورة وقتئذٍ فكثيراً ما كان يغني البعاتي: (من أهلنا سافرنا ودرب الغربة بهدلنا / ووب الليلة يا أهلنا / من أهلنا شلتينا/ بعد الفُرقة لمينا / ووب الليلة يا أهلنا).. أما أغنية (بخاف) فقد كانت هي سيدة شباك تذاكر البعاتي، بل كانت المفردة وحدها قادرة على بذر الخوف في روع المستمعين الصغار.

وهكذا كان موتى السبعينيات في ذائقة الأساطير الشعبية يغنون، يتكلمون ويحكون الروايات ولا عزاء لقراصنة الكاريبي أصحاب الفلم الشهير (الموتى لا يرون الحكايات).


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب