ورحل الماجدان مأسوفاً عليهما

ورحل الماجدان مأسوفاً عليهما
بقلم: خالد محمد فرح
لم نكد نفيق من هول الصدمة والحزن العميق على رحيل زميلنا وصديقنا العزيز السفير ياسر عبد الله عبد السلام الذي غادرنا إلى دار الخلود في منتصف شهر فبراير المنصرم، إثر معاناة مع المرض تحملها بصبر وجلد واحتساب، حتى أسلم الروح الى بارئها في قاهرة المعز، حيث ألجمتنا الصدمة وران علينا الذهول والأسى الممض مجدداً عندما نعى الناعي زميلاً عزيزاً وأخاً كريماً آخر هو السفير ماجد يوسف يحي الذي لبى نداء ربه هو الآخر إثر علة مفاجئة لم تمهله البتة، بعيد وصوله مباشرةً بالطائرة إلى العاصمة السنغالية داكار في مهمة رسمية مع سفارة السودان هناك، فسبحان القائل في محكم تنزيله: “وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت” صدق الله العظيم، وسلام على روحيهما في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
أما لماذا قلنا الماجدان، فجرياً على مذهب بلاغة العربية في تغليب اسم علم بعينه على علم آخر إذا اشتركا في الصفات والمناقب والميزات، وكان اسم أحدهما أخف نطقاً عند وضعه في صيغة المثنى، بحيث تكون الإشارة اليهما، أبلغ دلالة عليهما معاً، كما قيل: “العمران” في الإشارة إلى الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما أنه ليس من السائغ أن يقال: “الأبو بكران” بالطبع، وكذلك لما كان الفقيدان العزيزان السفير ياسر والسفير ماجد ماجدين حقاً، أسميناهما “الماجدين”.
إن هنالك في الواقع أكثر من وجه شبه وآصرة قربى جمعت بين فقيدينا العزيزين. فهما تربان تقريباً من حيث السن، وتخرجا معاً في ذات العام في كلية القانون بجامعة الخرطوم، وبحكم دراستهما القانون، فقد تماثل مشواراهما المهنيان أيضاً بوزارة الخارجية إلى حدٍ كبير، فكلاهما قد عمل بالإدارة القانونية وإدارة المنظمات الدولية وتوليا رئاستها كذلك، كما انتدب كلاهما للعمل ببعثة السودان الدائمة لدى الأمم المتحدة بنيويورك.
وبعيداً عن مسيرتي الراحلين العزيزين المهنية والعملية، وهما مسيرتان عامرتان ومرموقتان بكل تأكيد، تستوقف المرء فيهما بصفة خاصة، الجوانب الإنسانية في شخصيتيهما الدمثتين والودودتين والآسرتين، واللتان تشتركان معاً في التحلي بغلالة شفيفة من السخرية المحببة وحس الفكاهة اللطيف، الذي كان يصدر عنهما فهكذا عفواً، في غير ابتذال ولا سماجة.
أما أخونا السفير ياسر عبد الله، فإن شهادتي فيه مجروحة كما يقال، فهو زميلي وابن دفعتي بوزارة الخارجية التي قبلنا بها معاً في شهر يونيو من عام 1986م، من ضمن كوكبة ضمت عشرين سكرتيراً ثالثاً، ستة عشر شاباً وأربع آنسات آنئذٍ. قبلت دفعتنا تلك بالخارجية بعيد ثورة أبريل 1985م، ومما ظللنا نفخر به دوماً أنها قد كانت دفعة خالصة ومبرأةً من أي شبهة محسوبية أو محاباة من أي نوع كان: حزبية أو أيديولوجية أو جهوية.. الخ، حتى أن وكيل الوزارة وقتها السفير القدير فاروق عبد الرحمن قد شبهنا بدفعته هو التي انضمت إلى الخارجية بعد ثورة أكتوبر 1964، من حيث أنهما قدمتا إلى الوزارة في عهد النقاء الثوري على حد وصفه.
أمضينا ستة أشهر من التدريب العملي والنظري والدورات الحتمية في المجالات المختلفة في جو من الإلفة والمرح والحبور، بما كل ما كان يدور فيها من مواقف طريفة تزينها تعليقات ياسر الطريفة والساخرة. وما أكثر تلك المواقف التي منها على سبيل المثال أن أول جملة طبعناها على الآلة الكاتبة اليدوية آنئذٍ كانت هي عبارة اعتباطية لا معنى لها جاءت كلماتها هكذا على ما أذكر: “كمنتات شسلبس”، وكان أخونا حيدر بدوي بها معجباً، كأنها من قبيل الشطح الصوفي!. وكانت أختنا مها أيوب عندما تضيق ذرعاً بفظاظة أحد التعلمجية في التدريب العسكري، تحتج قائلة: “أصلو نحن دبلوماسيين ولا جنود!!”.
كان ياسر عبد الله أول تلك الدفعة، وكان الثاني عليها هو كاتب هذه السطور، والثالث الزميل العزيز كازميرو رودلف، وهلمّ جرا.
ابتعثنا أنا وياسر عبد الله إلى القاهرة لقضاء فترة تدريبية بالمعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية المصرية، حيث مكثنا هناك منذ شهر أكتوبر 1987 وحتى نهاية يونيو 1988م. تم تنسيبنا إلى الدفعة رقم 19 بالمعهد مع إخوة أعزاء من الملاحق الدبلوماسيين المصريين حديثي الالتحاق بالخارجية آنئذٍ، الذين صاروا لنا زملاء وإخوة أعزاء بحق، وقضينا معهم فترة من أجمل الفترات المفعمة بالذكريات الجميلة حقاً، والذين صاروا فيما بعد سفراء كباراً، جمعتنا الصدف السعيدة مع بعضهم لاحقاً في بعض عواصم العالم، مثل معاصرتي أنا مثلاً، للأخ الغزيز السفير هشام ماهر بداكار في عامي 2010 و2011م. ومن بين منسوبي تلك الدفعة الأخ الفاضل الأمين المساعد الحالي للجامعة العربية سعادة السفير حسام زكي.
استضافنا فور وصولنا إلى القاهرة الأخ العزيز الإداري بالسفارة حينها عثمان محمد بك، وكان عزباً لم يتأهل بعد، بشقته الكائنة بشارع سعد زغلول بالمنيرة المتفرع عن شارع القصر العيني، على مرمى حجر من سفارة السودان بقاردن سيتي، ورا البنزينة.. واخد بال حضرتك؟!!.
أقمنا مع عثمان بك نحو شهر، استمتعنا فيه بالأنس الجميل، وبمشاهدة برامج التلفزيون المصري أيام لم تكن هنالك أطباق ولا قنوات فضائية. شاهدنا الجزء الأول من مسلسل “ليالي الحلمية” لأول ظهوره، وتأملنا الكلمات ذات المدلولات الوجودية العميقة لخلفيته الموسيقية والغنائية المميزة من أداء الفنان علي الحجار بصوته العميق والمعبر:
منين بيجي الشجن؟
من اختلاف الزمن!!
ما أصدق هذا المقطع وما أشجاه!
خصوصاً عندما تعود بنا الذاكره ونتأمل ذلك الماضي، وقد اختلف الزمن بعد أن فقدنا أعزاء زينوا حياتنا وشاطرونا أحلام شبابنا، وعشنا معهم أجمل لحظات حياتنا مثل أخينا ياسر عبد الله.
=-=-=-
مصحح


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب