عثمان محمد الاغبش.. صعدت النفس الزكية 

المسلمي الكباشي

هل رأيتم قائماً بالحق يخشى من حِمام

إنما الموت تجلٍ في مقامِ.

ذلكم الموت عند العارفين، من أمثال الشيخ عبد المحمود الحفيان الشيخ الجيلي، رجل طابت بالجزيرة، ولكن طلاوة الكلام وحلاوته لا تمحو مرارة فراق الأحبة.؛

أصبحنا وأصبحت الدنيا اليوم الأربعاء الثامن من مايو 2023م، أصبحت على فراق الدكتور الفريق عثمان محمد الاغبش، المدير العام الأسبق لدائرة التوجيه بالجيش السوداني.

عرفنا عثمان الأغبش ونحن ندرج في أولى سنواتنا في التعليم الجامعي، بجامعة أم درمان الإسلامية، فقد سبقنا فيها بعام واحد.

عثمان لم يكن مبذولاً على قارعة الطريق تسكعاً في أروقة الجامعة ، ولكنه صاحب مظان، تجده فيها إن كنت عنه باحثاً، فهو إما في قاعة الدرس أو في المكتبة يلتهم مما فيها، أو في المسجد قائماً يصلي أو في ميادين الرياضة.

عند الاخفياء ما لا تجده عند عامة الناس،

وعثمان لم يأت صدفة إلى الجامعة يخطب كلية ويطلب علماً كيف ما اتفق، جاء الرجل على قدر، في نفسه غاية، وبين ناظريه رؤية، فقد امتحن للشهادة السودانية في المساقين، الثانوي والأهلي ، ولكنه أكد على اختياره الشهادة الأهلية ففيها مآربه التي تغَيّاها، فهو شيخ تلقى المعرفة الإسلامية من مشارب مختلفة وأراد استكمالها في كلية الدراسات الإسلامية ليكتمل مشروع المعرفة الاسلامية عنده، قرر أن يكون عالماً، وحقق ما انطوت عليه نفسه.

كان مختلفاً، ولكن ما عنده هو نفسه ما يفتقده الآخرون، و لهذا كثر الممتنون لجليل عطائه من الزملاء، وأنا منهم، فقد رزقني الله السكن معه في داخلية واحدة، ومكنني من تلقي بعضاً من فيوض علمه وقرآنه ومهارات أخرى كثيرة..

كان أمامنا للصلاة، لا ندري متى يصحو من الليل، ولكن موعدنا معه الفجر ،

لم أر مثل صلاة عثمان، يسبغ وضوءها، ويأتيها بفرح وتوءدة، يقيم أركانها، ويحقق تفاصيلها، يركع بهدوء ويسجد بتخشع، يحس من راقبه ان الرجل يلتذ بها ويحسها متعة في الجوارح، وراحة في القلب، يؤديها باتساق ادائي بديع، كأنما أوتي سرها من دون العالمين، ينزل فقهه النظري بها، ولكن مراقب صلاة عثمان لا يتوقف عند حركاتها المجودة، ولكنه يحس كيف ترتقي بها نفسه، وتعمر بها دواخله، وتفعم بها شعاب الإيمان ومعاقده، يتوحد عنده ظاهر الصلاة وباطنها، هكذا تحس بالصلاة عنده، والله اعلم بالسرائر.

ثم ينصب بعد الفراغ منها إلى التلاوة، فهو هنا يجتاز بنا في صبر جبال العي والتأتأة إلى ألسنة تنطلق بالقرآن في مراتب مختلفة بين حذق المهارة وشدة طلبها ، ومن بعد يبدأ معنا تمارين رياضة السويدي. رجل بهذه المهارات المتعددة تجتمع جميعها في نفس زكية..تحس الطاقة الايجابية للرجل تضئ المكان بهالة من التقى والورع، وترى من وراء الحجب قلباً مليئاً بالخيرات.

عثمان، النفس الزكية، ما كان يترك مستقبله هملاً تصنعه الصدف، فقد ولد بنباهة صنعت مستقبله، فقد تعلق منذ النشأة بالدين وسعى للتفقه فيه، واختار أن يمتهن الدعوة إليه، طريقاً مستقيماً لعبور الحياة الدنيا،

في تلك السنوات التي تخرج فيها عثمان الاغبش من الجامعة، كان لتخصصه رواج كبير في الخليج وخاصة السعودية، إذ لا يفصل بي الخريج والاغتراب إلا التخرج،. ويحكي في استغراب صديقنا عبد الباقي أحمد المهدي المساكن لعثمان الأغبش في تلك الأيام، فبينما يجتهد زملاء عثمان في الإعداد إلى الاغتراب، ينصرف الفتي هائماً في عالم خاص،كان لا يلتفت إلى فرصة تتراقص بين يديه تهفو لها نفس كل شاب، ولكنه يرنو ببصره إلى بعيد متمثلاً بعض أبيات الشاعر الليبي عمر خليفة النامي:

هزأت الأرضَ والشيطانُ يعرضها

في زيفها، ببريق الذل خِلاه

&&&&

عشقت موكبَ رسلِ الله فانطلقت روحي تحوم في آفاق رؤياه

ذلكم عثمان الاغبش الذي عرفناه واحببناه،ولم تتغير الصورة التي ارتسمت في المخيلات الشابة إلى أن ارتقى إلى البارئ التواب.

ومن جميل التوفيق أن زرناه قبل حوالي شهر بصحبة الأخوين عبد الباقي أحمد المهدي وكمال الدين إبراهيم ، ووجدنا الجسد الذي أنهكه علو الهمة يعاني وطأة المرض، ولكن النفس المطمئنة تتهيأ لرحلة الرجوع إلى ربها راضية مرضية. وعلى قول مرافقي بعد مغادرة داره، جئنا لتثبيت الرجل والتخفيف عنه ، ولكنا وجدناه أثبت من جبل، راغباً فيما عند الله، دافقاً بحسن الظن فيه تعالى.. رحب بقدومنا ،وآنسنا ما وسعته الطاقة.

غفر الله لأخينا عثمان محمد الاغبش، وكتب له أجر البلاء، وتقبل منه الكدح والعطاء، وأخلفه في من ترك خيراً كثيرا.