علاقة العدالة الإنتقالية والتحول الديمقراطي

علاقة العدالة الإنتقالية والتحول الديمقراطي

*

النذير إبراهيم العاقب

*

من المنتظر أن تبدأ صباح اليوم بقاعة الصداقة الجلسات النهائية لورشة العدالة والعدالة الانتقالية، والتي سبقها عقد العديد من الورش المماثلة في عدد من الأقاليم والولايات، والتي بدورها رفعت توصياتها وقراراتها للجهات المشرفة على تنظيم هذه الورش بغرض تضمينها في توصياتها النهائية.

ومن خلال الورش التي إنعقدت خلال الأسبوع الجاري، اتضح بجلاء التوق الجارف لمواطني الأقاليم والولايات المتضررين جراء الحروبات السابقة وتعرضهم لمظالم تاريخية وإنتهاكات إنسانية بالغة الخطورة، جلهم أتوا للمشاركة في تلك الجلسات لجهة إيجاد الإنصاف العادل من الحكومة المركزية القادمة، وهذا بالفعل ما يجب أن تكتمل فصوله بحذافيرها، من خلال إعطاء كل ذي حق حقه، وإنصاف المتضررين إنصافا يعوضهم عن ما فقدوه خلال فترات الحروبات والنزاعات المسلحة خلال الفترات الماضية، وخاصة العائدين من معسكرات النزوح بدول الجوار.

بيد أن تحقيق العدالة والعدالة الانتقالية على أرض الواقع يتطلب بالضرورة

تحقيق الإنتقال الديمقراطي في الدولة، والذي هو في الحقيقة عبارة عن العمليات والتفاعلات المرتبطة بالانتقال أو التحول من صيغة نظام حكم شمولي دكتاتوري، إلى صيغة نظام حكم ديمقراطي، لاسيما وأن الانتقال الديمقراطي في مجمله يدل على أنه مرحلة وسيطة يقع في أثنائها تفكيك النظام غير الديمقراطي القديم أو انهياره، والعمل على بناء نظام ديمقراطي جديد.

وعادة ما تشمل عملية الانتقال مختلف عناصر النظام السياسي مثل البنية الدستورية والقانونية، والمؤسسات والعمليات السياسية، وأنماط مشاركة المواطنين في العملية السياسية، بجانب أن مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية قد تشهد صراعات ومساومات وعمليات تفاوض بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين.

فضلا عن ذلك فإن ذلك يتطلب وجود

شرط أساسي يتجاوز حدود القانوني والسياسي والمؤسسي باتجاه المجتمعي العام، ويتعلق بحتمية توفّر درجة من النمو الاقتصادي، ومن تماسك الطبقة الوسطى، كأمر لا غنى عنه لإنجاز التحول نحو الديمقراطية ولاستقرار الحكم الديمقراطي.

وبالطبع فإن الديمقراطية كنظام للحكم، لها العديد من الخصائص والسمات التي تبدو مشتركة في غالبية الأنظمة الديمقراطية في العالم، والتي تمثل مجموعة الضمانات والضوابط المسيرة للعملية الانتخابية التي تسبق تشكيل الحكومة المدنية، والتي تلتزم بها تلك النظم التي تصف نفسها بأنها ديمقراطية، ولو من الناحية النظرية، وتتمثل مبادئ الحكم الديمقراطي في ضرورة

التداول السلمي للسلطة

عبر الانتخابات الحرة والنزيهة، والمساواة السياسية وتوفير ضمانات الحقوق السياسية والمدنية

وتطبيق مبدادئ سيادة الأمة

والشرعية

والفصل بين السلطات.

والملاحظ أنه مع الممارسة الفعلية للديمقراطية، ظهرت بعض الإجراءات المؤسسية التي تعمل على تحويل القيم الديمقراطية إلى واقع عملي، تتمثل في إنفاذ حكم القانون أو الحكم المقيد،

والذي بدوره يرتكز على وجود دستور يوصف بأنه ديمقراطي، يكون الركيزة الأساسية لنظام الحكم، وغالبا شريطة أن يكون مكتوبا، ويخضع له الحكام والمحكومون على قدم المساواة، واعتباره المرجعية العليا والفيصل بين المؤسسات في الدولة.

ويعني الدستور في الاصطلاح المعاصر، مجموعة القواعد القانونية التي يتحدد بها شكل الدولة، ونظامها السياسي بجزئياته المعروفة، وبالمبادئ الأساسية والأهداف العليا للمجتمع، والكيان العضوي والوظيفي للمؤسسات السياسية الرسمية في الدولة، وعلاقة هذه المؤسسات بالمحكومين.

كل ما سبق يوجب أن يتمتع الدستور المراد إعداده خلال الفترة الديمقراطية، بعنصر الفعالية، أي إعماله وتطبيقه في أرض اواقع، وإحتوائه على ضمانات تمنع الخروج عن مواده وجوهره، ويمكن ذلك بوضع مواد وأسس فوق دستورية، تمنع الانقلاب على الدستور مستقبلا، وبذات نص المادة 79 من الدستور الألماني، والتي تمنع تغيير المادة الأولى المتصلة بحقوق الإنسان، والمادة 20 المتعلقة بالمبادئ العامة للدولة الألمانية.

ولعل مبدأ حكم القانون يعد أحد أهم الضمانات للعلاقات الدولية، ومثال ذلك قيام الاتحاد الأوروبي بتحديد مبدأ (دولة القانون) كإحدى المعايير الأساسية للتعامل مع الدول النامية في نوفمبر 1991م.

ولتطبيق كل ذلك لابد للحكومة الديمقراطية القادمة، سواء كانت مركزية، أو إقليمية،

من أهمية الفصل بين السلطات،

وهذا المبدأ ينطلق من فكرة عدم استئثار جهة واحدة بالسلطة في يدها، وتقوم على التقسيم الوظيفي والعضوي للسلطات الثلاث في الدولة (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، بحيث لا تستطيع أي من هذه السلطات القيام بوظائفها دون رقابة السلطات الأخرى عليها، وذتك هو أساس العلاقة بين هذه السلطات.

بجانب الأهمية القصوي لتطبيق مبادئ التعددية والحرية، حيث

تعد التعددية أحد أهم ركائز الفاعلية السياسية، وخاصة الأحزاب والتي تعتبر الركيزة الرئيسية في الأنظمة الديمقراطية، حيث أنها ضمان للمنافسة وتوفير البدائل التي من خلالها يستطيع المواطنون اختيار الأنسب، لاسيما وأنه لا توجد وتترسخ مبادئ الديمقراطية بدون سياسة، ولا سياسة بدون أحزاب.

بجانب الأهمية القصوى لوجود مناخ حر يؤدي بدوره إلى التقليل من فرص إحتكار السلطة، وبالتالي ظهور الأنظمة السلطوية، وذلك لأن المشاركة السياسية من قبل مختلف الفاعلين السياسيين يساهم في تعزيز فكرة الرقابة على السلطة، وبالتالي صعوبة استئثار جهة معينة بها، وذلك انطلاقا من مبدأ (لا يوقف القوة إلا القوة)، وهذه المشاركة السياسية تعد جوهر العملية الديمقراطية، والتي تتطلب توافر المساواة وتكافؤ الفرص، لتحيق الإنتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي على أرض الواقع، والذي بدوره يرسخ لتطبيق مبادئ الإصلاح السياسي الذي يعتبر تغيير من داخل النظام وبآلياته نحو الأحسن والأفضل، ويمس الممارسات والسلوكيات والمؤسسات على حد سواء داخل النظام السياسي حتى وإن كان ديمقراطياً، لكن يشوبه الخلل والنقض ومايستدعي التعديل.

وفي حين أن الإنتقال الديمقراطي قد يكون مرحلة إنتقالية قد يتغيير فيها القادة السياسيون والهياكل المكونة للنظام السياسي ككل، بمعنى الإنتقال من نظام تسلطي إلى آخر ديمقراطي وأكثر إنفتاحاً وتعتمد مرتكزاتها من أجل تحقيق إصلاح ديمقراطي جدِّي ينطلق من أعلى إلى أسفل بإتخاذ الحكومات الإجراءات التي تبدأ بتحطيم إحتكارها للسلطلة وإضفاء النموذج الديمقراطي أثناء فترة الإصلاح، ولهذا يمكن القول أن كل من الإصلاح الديمقراطي وكذا الإصلاح السياسي وجهان لعملة واحدة، وركيزة أساسية لإنفاذ أسس ومبادئ ومفاهيم العدالة والعدالة الانتقالية.