إبراهيم أحمد الحسن
(١)
بعد انقضاء عطلة المدارس السنوية في خواتيم السبعينيات قبل الألفية الثانية زارني الصديق التلميذ النجيب وقتها والمصرفي النحرير حالياً عادل سعيد فارس وفي معيته هدية، لفها بورق من السُلفان صقيل، فضضت غلافها بسرعة وأنا أعلم جيداً أن ما وراء أكمة طيات السُلفان كتاب قيم. وكان المخبؤ هو ديوان للشاعر محمد المكي إبراهيم والذي قرأت له قبل هدية ورق السُلفان ديوان أمتي، سياحتي في الديوان كان نتاجها أبيات تحكرت في الذاكرة:
(من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة
جيل العطاء المستجيش ضراوةً ومصادمة
المستميت على المبادئ مؤمناً
المشرئب إلى النجوم لينتقي صدر الحياة لشعبنا:
جيلي .. أنا
كان العنوان غريباً وشاعرياً حد النخاع (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت).
(2)
لم تكُ الهدية كتاباً واحداً، بل ثلاثة كتب، الى جانب (الرحيق والبرتقالة) كان (ملعون أبوكي بلد) و(مسدار عشان بلدي) للشاعر والدبلوماسي سيد أحمد الحاردلو. وطفقت أقرأ:
والنحل أشبع كاسات الزهور قبل
وأنني الآن أزهى ما أكون وأصبى من صباي
ومكسياً من النور الجديد إزار
تأمليني فإن الجزر أوشك
إني ذاهب
ومع المدّ الجديد سآتي
هل عرفتيني؟
في الريح والموج
في النوء القوى
وفي موتى وبعثي سآتي
فقولي قد عرفتيني
وقد نقشت تقاطيعي وتكويني
في الصخر والرمل ما بين النراجين
وإني صرت في لوح الهوى تذكار
ومن وقتها أصبحت أشعار محمد المكي عندي هي الهوى والتذكار الذي ما برح مكتبتي.
(3)
اسمه ثلاثي محمد المكي إبراهيم علي، ومحمد المكي اسم مركب وأُطلق عليه الاسم المحمدي والمكي علي السيد المكي بن الشيخ إسماعيل الولي. ولد بمدينة الأبيض حي القبة العريق، وما أدراك ما (القبة).. كل العظماء والفطاحل في عروس الرمال وفي كل ضروب الحياة أنجبتهم القبة.. وكأني بحميد يعنيها حينما قال: قُبة (أصلو لما رموها حبة / قامت انشرت محبة). فكانت القبة أرضاً للمحبة وللمحنة ولمحمد المكي إبراهيم. (4)
المفردة العجيبة (سُجُوف) اختارها ود المكي لتتحكر في بديع قصائده فشادها لتغني على رُبى جميع القصائد عصفور:
مدينتك الهُدى والنور
مدينتك القباب
ودمعة التقوى ووجه النور
وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل
وفي الحصى المنثور
مدينتك الحقيقة والسلام
على السجوف حمامة
وعلى الرُبى عصفور
انحنى محمد المكي عند باب مدينته القصيدة، على أعتاب مدينة الرسول، وأرسل على قصائده السِّجْفَ قائلاً: (مدينتك الحديقة أقرب الدنيا/ إلى باب السماء وسقفها المعمور) وسجوف ذاتها لم تكُ غير تطريزات مُزَرْكَشَةٌ على حواف الثوب.. وهل كانت قصائد محمد المكي إبراهيم الا أفواف مزركشة الحواف؟.
(5)
محمد المكي القادم من القبة الى خور طقت الثانوية تشكلت ذائقته الشعرية هناك ونمت ذؤابات من أشعار لم تلبث أن تفتقت وتفتحت واكتمل نموها في جامعة الخرطوم، المثلث الذهبي الذي كونت أضلاعه قبة ومدرسة وجامعة، فبين القبة الحي وخور طقت المدرسة والجامعة الخرطوم ما يجعل كل الحواس مرهفة ومشرئبة تنتقي صدر الحياة لأجيال ذلك الزمان، جيل محمد المكي إبراهيم.
(6)
الدبلوماسية التي التحق بسلكها جعلت للمثلث الذهبي بعداً رابعاً لم يكتشفه الناس إلا في زمان الناس هذا، قد يتخذ المثلث – أي مثلث – ضلعاً آخر فيضحي مربعاً يخرجه من ضيق المثلث، ولكن الذي أضافته الدبلوماسية لمحمد المكي هو بعد رابع ويا له من بُعد، فالأبعاد كلها عند الأشياء والناس هي ثلاثة، ولكنها عند محمد المكي أربعة، قربه من القبة جعل الذي عشعش في ضميره يتفجر قصيدة تمدح النبي عليه أفضل الصلوات والتسليم وتقول: (مدينتك القباب / ودمعة التقوى ووجه النور/ وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل) فعند محمد المكي كما حميد أن (القبة) انشرت قباب وصارت مدينة، مدينة للحقيقة والسلام ولمحمد المكي إبراهيم يقول فيها:
هنالك للصلاة رياضها الفيحاء
والقرآن فجرياً
تضيء به لهىً وصدور
بساعات الإجابة تحفل الدنيا
وأنهار الدعاء تمور.
سلام الله يا أنحاء يثرب
يا قصيدة حبنا العصماء
من القبة الحي العريق بالأبيض وخور طقت والخارجية انطلقت قصائد حبه كلها. جميلة مزركشة الحواف عميقة المعاني وأنيقة الحروف. (7)
كانت قصائده تفوح بأريج البرتقال ورحيق الزهور وكان هو نفسه نحلة تطوف في بساتين زهوره هذه وتنقل للدنا قصائد تقول:
(وقتها كانت الريح تمضي جنوبيةُ
والمتاريسُ مخفورة بالبناتِ الأمازونِ والمنشدين
وكنا كما العشب كنا خفافاً ومحتدمين
لا تخافي علينا فقد سرت النار منا لأبنائنا
ولأبناء أبنائنا
والبنات الأمازون أصبحن أكبر
وتناسلن فينا فأصبحت النار أكبر!!
(8)
لم يكتفِ محمد المكي بالقصائد الجياد وضروب الشعر، وإنما أنتج أعمالاً فكرية عديدة اتخذ لها عناوين متفردة فكانت في ذكرى الغابة والصحراء تلك المدرسة التي نادت بالوحدة الاندماجية بين غابة الجنوب وصحراء الشمال، كان يصدح بأشعار وأفكار هذه المدرسة الى جانب روادها الآخرين مثل الدكتور محمد عبدالحي والنور عثمان أبكر، ولم يلبث منتوجه الفكري أن امتد الى ظلال وأفياءٍ وغيرها من الأعمال التي سطرها في سفر التأريخ خالدة.
(9)
جالت أعمال محمد المكي إبراهيم الفكرية وصالت ووثقت، وقدلت قصائده بخيلها وخيلائها في دنيا الأدب والشعر، ولكنها وعند مدينة الرسول أضحت قصيدة حب عصماء لها صهيل، وهكذا جعلها محمد المكي إبراهيم وعندما (البَاب يُقرعُ�يُضربُ/ يُركل/ يُكسر/يُهدم)، وعندما (القيامة تقتربُ الآن/ والأرض تخرج أثقَالها) يعود محمد المكي وعند أعتاب المدينة يحمل خاطر الدنيا، يهفو الى الحجاز وينشد:
على أثل الحجاز وضالها
وعلى خزاماها/ تهب قصيدة الصحراء
إلى تلك البساتين المعرجة الجداول
والقباب الخضر/ يهفو خاطر الدنيا
(10)
نسج محمد المكي إبراهيم قصيدته (مدينة الرسول) في نول ديوان أسماه (عندما يختبئ البستان في الوردة)، كانت القصيدة وردة ذات عبق وطيب في ذلك البستان، بل كانت البستان ذاته.. لذلك غاص العملاق محمد وردي في ذلك البستان واقتطف منه (مدينتك الهدى والنور)، وألبسها حلة لحنية زاهية تمشي في ذات اتجاه ما جمع بينهما من أغنيات.. وكما ذاب محمد وردي كان محمد المكي إبراهيم يذوب في رهف القصيد ويخبئ أشعاره كلها بستان في وردة (قصائد من رهافة وجدها/ شقَّت جليد الصخر / واجتازت عباب الماء). يا لرهافة حس محمد المكي حين يجعل الوجد في القصيدة يشق الصخر الجليد ثم يمضي ليجتاز عباب الماء، وعندما يشتد بأس الزمن والناس، عندما (يبدأ يوم من الخوف تحت ضـيـاءِ جَديـد) يلوذ محمد المكي بمدينة الرسول وظهره مستنداً الى حائط بستان من قصائد، يتأمل البستان يتناول وردة يخبئ فيها البستان، ثم ينشد في حضرة الرسول قصيدة عصماء، ينشد محمد المكي في حب الرسول محمد (لذنا بنورك / من شح النفوس ودائها) فلا شيء غير النور هو عند محمد المكي ملاذ ثم أنه (لنا بجمالك استعصام) لنا بجمالك استعصام.. لنا بجمالك استعصام.