جبر الضرر والعدالة الانتقالية

*
النذير إبراهيم العاقب
*
ظل الشعب السوداني كافة، ومنذ نيله استغلاله في حالة من الظلم المتواتر من قبل كل الحكومات المتعاقبة، وخاصة شعوب الأقاليم الطرفية، بدءاً من المنطقتين، النيل الأزرق وجنوب كردفان، ودارفور الكبرى وشرق السودان، حيث عانت هذه الأقاليم مر المعاناة، جراء الحروبات والنزاعات المسلحة المتواترة، والتي بالضرورة يصاحبها العديد من انتهاكات حقوق الإنسان ونزع الحقوق، والتهجير القسري للمواطنين، الأمر الذي يصاحبه القهر الممنهج إثر عمليات التعذيب والاعتداءات المتكررة ونهب ممتلكاتهم، الأمر الذي يفضي بالتالي إلى خلق حالة من الأذى النفسي والجسماني والمعنوي، وبالضرورة فإن تلك التصرفات الخرقاء من الحكومات وقواتها الأمنية تقتضي، ومجرد وصول الأطراف المتنازعة في تلك الأقاليم إلى سلام ينهي تلك المعاناة، تقتضي أهمية العمل على إنصاف تلك المجتمعات المعنية، والمتضررة من تلك الانتهاكات الجسيمة والمنتظمة طوال فترات الحرب والاقتتال، وذلك عبر جبر الضرر وإنصاف تلك المجتمعات المتضررة الإنصاف المجزي، والذي يعيد لها، ولو جزءاً من حقوقها المسلوبة من غير وجه حق.
ذلك بالطبع لن يتسنى أو بنبغي له أن يتحقق واقعاً، دون تطبيق وتحقيق مبدأ العدالة الانتقالية.
في المجتمعات التي تحاول إعادة بناء نفسها من جديد والانتقال من تاريخ عنيف يتسم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتُكِبَت في سياق ممارسة القمع أو في سياق نزاع مسلح أو غير ذلك من السياقات الأخرى.
وهنا تبرز تساؤلات بالغة الأهمية تتناول كيفية الاعتراف بالانتهاكات ومنع تكرارها، وتلبية مطالب العدالة واستعادة نسيج المجتمعات المحلية الاجتماعي، وبناء سلام مستدام. وبالطبع فإن العدالة الانتقالية هي، النظام الذي يسعى إلى بذل كل ما يلزم كي تنجح المجتمعات في التعامل مع مثل هذه الموروثات الصعبة، وتطوّر أدوات مختلفة من أجل تحقيق هذه غاية الإنصاف المجتمعي.
حيث تغطي العدالة الانتقالية، كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وتهدف بالضرورة إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنّهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون، وبالتالي، تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة في المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة، وذلك من خلال تتجذّرها في القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهنا يقع على عاتق الدول الالتزام الصارم بتوفير سبل انتصاف فعالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وتلبية حقوقهم في الحقيقة والعدالة والجبر. ومن أجل الوفاء بهذا الالتزام، وكي تكون العدالة الانتقالية قادرة على المساهمة بفعالية في السلام والمصالحة المستدامين، لابد من اتباع نُهج شاملة، بحيث تسعى هذه النُهج إلى إحراز تقدم على مستوى جميع أبعاد العدالة الانتقالية وبطريقة متكاملة.
وبالضرورة فإن عمليات العدالة الانتقالية تشمل ضرورة تقصي الحقائق ومبادرات الملاحقات القضائية وأنواع مختلفة من التعويضات ومجموعة واسعة من التدابير لمنع تكرار الانتهاكات من جديد، بما في ذلك الإصلاح الدستوري والقانوني والمؤسسي، والعمل على تقوية المجتمع المدني، وصون المحفوظات، وإصلاح التعليم بحسب اقتضاء واحتياجات كلّ سياق.
وعلى عمليات العدالة الانتقالية أن تكون
محدّدة السياق، حيث تستند على خصوصيات سياق كل بلد، والسياقات السياسية والمؤسسية والقانونية والتاريخ والثقافة والأولويات المحلية، بما في ذلك توقّعات الضحايا ومطالبهم في ما يتعلق بالعدالة والمصالحة وإعادة البناء بعد العنف.
ووطنية بأن تمتلك عملية تحقيقاً واقعاً، السلطات الوطنية والمحلية، فضلاً عن مجتمعات الضحايا المحلية والمجتمع ككل، وتشارك في تصميمها وتنفيذها، والاعتراف بها، وتعتمدها لفهم إرث الماضي وتركته وبناء رؤية مشتركة للمستقبل.
وشاملة، على أن تشمل العملية جميع أصحاب المصلحة، سواء كانوا من الضحايا أم المارة أم مرتكبي الجرائم، بغض النظر عن خلفيتهم السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية، وكذلك المجتمعات المحلية والمجتمع الأوسع، مع التركيز على إشراك مَن يُستَبعَد ويُهَمَّش تقليديا أو عادةً الأقليات العرقية والدينية وعديمي الجنسية والنساء والشباب والأطفال.. إلخ.
ومحور العدالة الانتقالية بالطبع هو الضحية نفسه، على أن تعترف العملية بأهمية الضحايا المحورية ووضعهم الخاص عند تصميم عمليات العدالة الانتقالية وتنفيذها، وان تحترم كرامتهم وآرائهم وأولوياتهم واهتماماتهم بالكامل.
بجانب ضرورة مراعاة للفوارق بين الجنسَيْن، وأن تشرك العملية المرأة في جميع مراحل ومستويات عملية صنع القرار في ما يتعلّق بعملية العدالة الانتقالية والتصدي الشامل لمجموعة كاملة من انتهاكات حقوق الإنسان بهدف تحويل عدم المساواة بين الجنسين، من خلال التركيز بشكل خاص على الانتهاكات الجنسية والجنسانية وأسبابها الجذرية.
والمعلوم أن العدالة الانتقالية تقوم على المشاركة والتمكين، بحيث تضمن المشاركة الفعالة والتشاور مع الضحايا والمجتمعات المتضررة عند تصميم آليات العدالة الانتقالية وتنفيذها، فتساهم بالتالي في إحداث تحول في تصورات الضحايا والمجتمع الأوسع نطاقا وفهمهم لوضعهم وأدوارهم كمستفيدين من العملية وكعوامل تغيير في السعي لتحقيق هذا التحوّل والسلام والديمقراطية والمصالحة.
على أن يحرص منفذوها على أن تكون عملية إنفاذ برامج العدالة الانتقالية تحويلية للمجتمع ككلّ، وأن لا تُفهَم العملية على أنها ممارسة تتطلع إلى الماضي فحسب، بل أيضاً كفرصة للتطلع إلى المستقبل حتى نضمن أنها بالفعل ستحقّق تحوّلاً مجتمعياً جذرياً من خلال تلبية احتياجات الضحايا ومعالجة أسباب الانتهاكات، بما في ذلك التفاوتات الجسيمة وهياكل السلطة غير العادلة والتمييز المترسّخ والإقصاء، ومعالجة أوجه القصور المؤسسية والإفلات الهيكلي من العقاب وانتهاكات حقوق الإنسان الأخرى التي تهدّد السلم والأمن أو تولّدهما.
ومتى ما استوفت عمليات العدالة الانتقالية المعايير أعلاه المعايير، فإنها بلا شك ستساهم وبفاعلية في إحداث التغيير الجذري في المواقف التي تتطلبها التحولات كي تبقى مستدامة.
وفي هذا السياق، من الضروري ضمان أوسع مشاركة ممكنة لمنظمات المجتمع المدني في صنع القرار، لاسيما وأن العدالة الانتقالية كأداة لبناء السلام، يرتبط السلام الدائم ارتباطا وثيقا بإنفاذها رفقة التنمية، واحترام حقوق الإنسان، لاسيما وأنه قد أظهرت عمليات العدالة الانتقالية مراراً وتكراراً أنه يمكنها أن تساهم في معالجة المظالم والانقسامات المجتمعية، ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن تكون عمليات العدالة الانتقالية هذه محددة السياق ووطنية، وأن تركز على احتياجات الضحايا، وبالتالي، تنجح في ربط المجتمعات مع بعضها البعض وتمكينها وتحويلها بأفضل طريقة ممكنة، لجهة أن تساهم بإيجابية في تحقيق سلام دائم.
ومعلوم بالضرورة أن القراران الصادران في العام 2016م من الأمم المتحدة بشأن حفظ السلام، أي قرار الجمعية العامة 70/262 وقرار مجلس الأمن 2282، يعترفان بالسيطرة الوطنية والشمولية، باعتبارهما أساسيين لنجاح جهود بناء السلام، وتحقيق مبادئ العدالة الانتقالية والمساءلة والوقاية، وتسهم في كسر دوّامة العنف والجرائم الوحشية، واستعادة سيادة القانون والثقة في المؤسسات، وبناء مجتمعات قوية وقادرة على وأد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان قبل وقوعها، خاصة وأنه قد سبق وأن ركّزت قرارات مجلس الأمن على أهمية المساءلة في منع النزاعات في المستقبل، ولتجنب تكرار الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي مستقبلاً، ولتمكين السلام الدائم والعدالة والحقيقة والمصالحة.
كما أنّ العدالة والمساءلة هما مسألتان أساسيتان للتصدي لخطر وقوع جرائم فظيعة ومعالجتها، بناءً على الإطار التحليلي للتنبؤ بالجرائم الوحشية، وهنا بإمكان كل مكون من مكونات العدالة الانتقالية أن يؤدّي دوراً إيجابياً في منع الجرائم الوحشية والأنواع الأخرى من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فالمساءلة الجنائية تُرسَل إشارة واضحة على أنه ما مِن أحد فوق القانون، وهذه الحقيقة بالغة الأهمية لتحقيق التكامل والتماسك الاجتماعيين، كما أنها تؤدّي إلى تعطيل وتفكيك الشبكات الإجرامية، وتتمتّع بالقدرة على ردع المزيد من الانتهاكات والجرائم.
ويوفر تقصي الحقائق للضحايا والمجتمعات المتضررة منصة عامة يعبّرون من خلالها عن آرائهم، كما يمكّن المجتمعات المحلية المختلفة من سماع تصورات بعضها البعض، فيوفّر بالتالي أساساً موضوعياً وواقعياً يسمح بتطوير فهم مشترك للماضي ويؤمّن ركيزة للتوصيات في مجال الوقاية.
أمّا جبر الضرر، فإنه بالضرورة يسهم وبشكل فعال في الوقاية، من خلال الاعتراف بالضحايا كأصحاب حقوق وبإمكاناتهم كأداة تحفيزية لتغيير ظروفهم.
وضمانات عدم تكرار الانتهاكات هي بطبيعتها تطلعية ووقائية، وهي إجراءات محددة تعالج الأسباب الجذرية والفورية للانتهاكات بهدف تجنب تكرارها. وإلى جانب الإصلاح المؤسسي الذي يشمل الإصلاح الدستوري، وإصلاح قطاع العدالة والأمن، بما في ذلك التدقيق، يمكن أن تنطوي الإجراءات المعتَمَدة في هذا الصدد على تغيير في مادة التاريخ وتقديم المشورة لمعالجة الصدمات والأرشفة ومبادرات تخليد الذكرى، فهل نطمع حقاً، في أن تنزل تلك الأسس والمبادئ والمفاهيم التي تستند عليها العدالة الانتقالية على أرض الواقع من قبل الحكومة المدنية القادمة؟!.

 


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب