نحو وطن تُمحى فيه الخطوط الوهمية، يحتضن الكل بعمق إنسانيته وجمال روحه!!!
د. الهادي عبدالله أبوضفآئر
كنا في جنوب السودان، ذاك الجزء الغالي الذي ضاع من بين أيدينا كما يتلاشى ضوء الفجر في أفق بعيد. في تلك الأمسية الساحرة، اجتمعنا تحت سماء تزدان بالنجوم، والهواء يعج بعبق الذكريات وأصوات الأمل المبتور. كانت الفنانة الإرترية هيلين تتصدر المشهد، بصوتها العذب الذي ينضح بالشجن، تغني بروحها وتبث الحياة في نفوسنا لحناً كماء يروي زهوراً ذابلة، وينير طريقاً أطبق عليه الظلام. حينما صدحت بأغنية “حبيت زينوبة”، كان صدى صوتها يتسلل إلى القلوب كالنسيم الرقيق حاملاً معها دفئاً وأملاً، تبعث في العتمة نوراً، لتجعل الحياة اكثر جمالاً. وهي تردد
“تعبت خلاص من الغرام توبة
شوف الزمن ساقني
مشيت جبال نوبة
قابلت لي ظبية سموها زنوبة
شالت خلاص قلبي حبيتا زنوبة”
في زاوية هادئة من الحفل، وقف شابان من جنوب السودان يتأملان المشهد بعينين تحملان مزيجاً من الفضول والشوق. التفت أحدهما إلى الآخر، وهمس بنبرة متسائلة: “دبية… ده شنو يعني (ظبية)؟”. ابتسم أخوه ابتسامة تحمل في طياتها دفء المعرفة، وقال بهدوء: “دبية ده… بنية صغيرة، كيه؟ جلدو سّمّح ومليان.” وفي تلك اللحظة، شعرت أن هذه الكلمات ليست مجرد وصفٍ عابر، بل هي رمز لوطن بأكمله. وطنٌ مليءٌ بالخيرات، وغنيٌّ بتنوعه، تلك الأرض التي تتسع، من سفوح جبال مرة حيث تنحني الطبيعة لعظمتها، إلى شواطئ البحر الأحمر التي تحتضن الموج بحنان الأم لأطفالها. من نخيل الشمال الذي يقف شامخاً رمزاً للصمود، إلى الجزيرة الخضراء التي تشهد على خصوبة الأرض وسخاء السماء. وطنٌ ينهض، ويمتد ليشمل النيل الازرق وكردفان وجبال النوبة التي تحمل في جوفها كنوزاً لا يعرفها إلا من عاش فيها، تروي حكايات الأجداد وتاريخاً عريقاً يزخر بالثروات. الوطن، ليس مجرد حدود مرسومة على الخرائط، ولا مساحات محكومة بالجغرافيا. إنه كائن حي، ينمو ويتنفس بحياة أبنائه، يرتبط بحبهم وانتمائهم. إنه فضاءً يتجاوز الزمان والمكان، يختزن ذكريات وآمالا، تجسد مشاعر الانتماء والهوية.
هذا الوطن الذي نطمح إلى بنائه، هو ذاته الذي يراود أحلامنا كل يوم،
وطن شامخ، وطنّ عاتي ،
وطن خير ديمقراطي.
لم يكن مجرد فكرة طارئة، بل هو تجسيد لإرادة عميقة في نفوس كل من آمن بأن الإنسان وُجد ليعيش حراً، متساوياً في الحقوق والواجبات، لا يُكبل بقيود الظلم، ولا تثقله أعباء التمييز والتفرقة. عندها تتحول هذه الرؤية إلى واقع عندما نتكاتف سوياً شيباً وشباباً، رجالاً ونساءً، على اختلاف مشاربنا وخلفياتنا، من أجل تحقيق الهدف المشترك : بناء دولة يسودها العدل، حيث لا تُعلى سلطة فوق القانون، ولا مكان فيها إلا للمساواة والعدالة الاجتماعية. هذا هو الوطن الذي نسعى لبلوغه؛ وطن يقوم على أسس الديمقراطية، وسيادة القانون، والاحترام المتبادل. وطنا جديدا، لا يشبه الوطن الذي ألفناه. وطنا لا يسأل فيه المرء عن دينه ولا عن لون بشرته، بل عن روحه وقلبه وعمله.
هذا الحلم الوطني، يتطلب أن يسهم كل بقدر ما يستطيع، بلا تمييز بين قوي وضعيف، أو غني وفقير. الجميع يعمل بجد واخلاص، نحو مستقبل مشرق. وطن، لا مجال فيه للمحاباة أو المجاملات. المناصب لا تُورث، بل تُمنح فقط لمن يمتلك الكفاءة والقدرة، والفرص لا تُعطى إلا لمن يستحقها، ذلك الذي كافح واجتهد للوصول إليها. عندها تصبح المساواة حجر الأساس الذي يُبنى عليه السلام الحقيقي. في تلك الحظة المليئة بالتأمل، جاء صوت يسأل ببراءة: كما سأل اخونا من جنوب السودان، لماذا نبني هذا الوطن؟ ألم يكن لدينا وطن من قبل؟” ساد الصمت برهة، ثم جاء الرد بصوت عميق وهادئ نبني هذا الوطن لأننا نطمح إلى وطن لا نخاف فيه، وطن نعيش فيه بحرية تامة، لا تحدد فيه قيمتنا بناء على لون بشرتنا أو معتقداتنا أو أصولنا. وطن خال من الملايش، وطن فيه السلام شعار لا تعرف الحواجز بين أبنائه. وطن تؤسسه قيم الحب والإيمان بالمساواة، ومع كل شروق جديد، تشرق معه آمال يتجدد فيها العهد بأن العدالة هي النور الذي يضيء الطريق للجميع دون استثناء، وأن المساواة هي الأرض التي يقف عليها كل مواطن، بغض النظر عن انتماءاته، لبناء مجتمع قوي ومستدام.
كلما قيل يصبح سرابا لأن في الحرب تضيع الأهداف كما تصطدم الكرة بالعارضة، وكأن الفريق الذي اجتهد ولم يسجل هدفا قد سُلب حقه في التقدير، فيعرض الجمهور عنه، غير آبهين بروعة الأداء أو نزاهة اللعب. كذلك في مسرح الحياة، ليس بالضرورة أن ينال الفوز من بذل الجهد الأكبر، فالنصر ليس وعداً ثابتاً لمن دافع عن قضيته بشجاعة. وكما في كرة القدم، ليست كثرة المحاولات هي التي تجلب التصفيق والاعتراف، بل قد تجرّ على صاحبها خيبات الأمل إذا كانت خطواته عشوائية. فالعبرة ليست بعدد السهام التي تُطلق، بل بجمال تلك التي تصيب الهدف، ولربما ينقلب الشغف إلى حسرة إذا كانت معظم الطلقات تضيع بعيداً عن مرمى الأحلام. وعلى هذا النحو، الأوطان لا تبني بالاماني, فعندما تختفي صوت الضمير الحي، وتنهزم الأخلاق، وتتلاشى القيم، يُغتال وجه الحقيقة، وتتحول الحياة إلى ساحة صراع مرير ويختبئ الحق خلف ستائر الفوضى. وتغرق الحقائق في بحر الوهم، ويطفو أصحاب العقول الضيقة على السطح يملؤون الفراغ بزيفهم، وتسلط عليهم الأضواء الكاذبة، فترتفع مكانتهم مع كل شرارة جديدة للفرقة.
في هذا المشهد القاتم يصبح الباطل هو القانون الذي يحكم، وتُلصق تهمة الخيانة بالاخيار، والدفاع عن الحق يمسي جريمة لا تغتفر. يُعاقب كل من يحاول الحفاظ على المبادئ والقيم، وفي لحظة من التأمل العميق، يتساءل أهل كردفان بأسى: “وين الفكي الجاب ليكم العرقي؟؟ والذي ساقنا إلى حرب لا تُبقي ولا تذر؟ إنها كلمات تختزل مرارة الواقع، تبحث عن من زرع بذور الفتنة. فالعرقي هنا ليس سوى رمز للفساد الذي لوّث الوطن، وأغرقه في حرب عبثية سرقت من الشعب آماله وأحلامه. السؤال يتجاوز تفاصيل اللحظة، ليصبح نداءً من قلب مُثقل بالهموم، يتساءل عن السبب الذي أدى إلى انحدار الأمة إلى هذا الدرب المظلم. حربٌ لم تُبقِ سوى رمادٍ من الذكريات، حيث أصبح الوطن ساحةً للأحزان المتراكمة، وصارت الكرامة سلعة نادرة في زمن الاضطرابات. كل ما يحتاجه هذا الوطن أن تعود العقول من السكرة، إلى حبٌ صادق ينبع من القلوب، ليعاد تشكيله من جديد، وطن يُبنى على العدل والمساواة، حتى لا يكون أحدٌ فوق القانون. وحتى لا تضيع الأهداف، وتبقى “ظبية” حلمٌا مشتركا ورمزاً لكل ما هو جميل في هذا الوطن.. رمزاً للبدايات الجديدة، والأحلام التي لا تعرف الانتهاء.
abudafair@hotmail.com