نهوض وطن من ركام المؤامرة: حكاية شعلة لا تنطفيء
د. الهادي عبدالله أبوضفائر
مع بزوغ كل فجر جديد، يرتقي شهيد ليكتب بدمائه الطاهرة فصولاً جديدة من حكاية الحياة، بأسمى معانيها وأبهى صورها. تلك الدماء ليست مجرد قطرات تسكبها الأقدار، بل هي أوسمة تزين تراب الوطن بحلم مدنية، حرية، وسلام، وتجعل الأرض تنبض بروح العزة والشموخ، وكأنها تعلن للعالم أن الوطن باقٍ رغم المؤامرات. ينهض أغلبية الشعب في لحظة النصر، محتفياً بتضحيات أبنائه، وكأنما يوقن في أعماقه أن الحلم لم يُخلق لينطفئ، بل ليُشعل الآفاق نوراً يزداد وهجه مع كل خطوة يخطوها الجيش، والمشتركة، والمستنفرون، والمقاومة الشعبية. كل خطوة هي شهادة على أن الأمل لا يموت، وأن المجد يُعاد رسمه على وجوه أنهكها الانتظار، ليؤكد أن الطريق إلى الحلم لا ينتهي إلا بالوصول إلى انتصار يُخلد في القلوب.
اليوم نقف إكراماً للشهداء، ونحمل على عاتقنا عهداً مقدساً بأن دماءهم الطاهرة لن تذهب سدى، وأن أحلامهم بوطن كريم لن تُدفن في غياهب النسيان. إن الحلم الذي سقوه بدمائهم وفدوه بأرواحهم سيظل أمانة عظيمة تُثقل ضمائرنا وتُضيء دروبنا. ولتحقيقه، يجب أن نتعلم من تضحياتهم درس الوحدة، فنُطهر أرواحنا من لوثة العنصرية وننبذ قيود الجهوية التي تُضعف بنياننا. علينا أن نرتفع فوق خلافاتنا ونُضمد جراحاتنا لنصنع وطناً يحتضن الجميع، وطناً قوياً بعزيمة رجاله ونسائه الذين يصطفون كتفاً إلى كتف، لا يخشون الموت إذا كان ثمنه حياة الوطن. قبولنا لبعضنا يجعل الوطن شامخاً كجباله الراسيات، خالداً كضوء شمسه الأبدية، رمزاً للعزة والإباء، وحكاية نرويها للأجيال، عنوانها التضحية والحب والإخاء.
من ترابك يا عازة، نُخاطب أولئك الذين ظنوا أن الوطن قد أثقلته المحن، وأن ينابيعه قد جفّت، وأن أنفاس أبطاله قد سكنت. نقول لهم، أنتم لم تفهموا بعد جوهر هذه الأرض ولا سرها الذي يختبئ في أعماقها، مهما أضناها الألم، تظل تنبض بالحياة كنبض قلوب أبنائها، تُخبئ في تربتها أساطير صمود لا تنكسر، وحكايات عزيمة تُضيء حتى في أحلك الليالي، عازة نبض متجدد، وسرّ أزلي يتدفق في عروق الحياة رغم عواصف التاريخ وأثقاله. تحمل في أعماقها وعداً لا يخون، وحياة تتجدد كالنيل الذي لا ينقطع جريانه. عازة جبال لا تنحني، ووديان تختزن القوة، وشعب كالصخر الذي لا يلين، إرادته متجذرة كإرث الأجداد، تحمله رياح التاريخ من كرري وشيكان، وتتجلى روحه في ميثاق الشهداء الذين سطروا بدمائهم ملاحم أكتوبر وأبريل وديسمبر، وشهداء الكرامة ضد حرب الميليشيا وأعوانها. نقول للأعداء بصوت ملؤه التحدي: الوطن الذي سقته دماء الفداء لا يموت، ينهض من رماد المحن في كل مرة، أقوى عزماً وأبهى حضوراً، يحمل راية الحرية في يده، ويخط طريق المجد بأقدام لا تعرف التراجع. هذا الوطن وُلد ليبقى، عصياً على الانكسار، شاهداً على عظمة من صنعوه وأمانة من يرثونه.
عودتنا دائماً يا وطن، أن تكون كالغصن الجريح الذي، رغم الألم، يُطلق براعم جديدة تُعلن انتصارها على الجراح. مهما تعمقت فيك الآلام وتكاثرت عليك المحن، تنهض أكثر إشراقاً وأشد بأساً، تحمل في أعماقك سر الخلود وروح الصمود، وكأنك كُتب لك أن تكون وطناً لا يعرف الفناء، وحُلماً لا يشيخ أبداً، متجدداً بإرادة لا تعرف الاستسلام، ومستعداً لصياغة فصول مجدك من جديد. إن المؤامرة التي تحيط بك، مهما اشتدت وطالت، ليست سوى مقدمة لصباح يحمل وعداً بالنور، صباحا يعيد شعلة الأمل في عيون من أنهكهم اليأس. كمثل بذرة في أرض جرداء حين تمسك السماء ماءها، يبقى الأمل، تتحين لحظة الخصب لتزهر من جديد.
ان المآسي، مهما بدت تلالا شاهقة تسحق الروح بثقلها، تخفي في أعماقها سراً غامضاً، يشبه الرحم الذي يختزن بدايات جديدة وينبض بإمكانيات الحياة. وكما أن الليل، مهما طالت ساعاته واشتد سواده، لا يملك إلا أن يلد فجراً مشرقاً يُعيد تعريف الأمل، فإن الحرب، رغم قسوتها، تظل معلماً خفياً، تصقل النفوس وتشحذ العزائم، وتحيل المعاناة إلى بذور تنمو في تربة الظلام لتشق طريقها نحو نور الحياة بإصرار لا يعرف الخنوع. السودان، هذا الوطن الذي يختزن في أعماقه ملاحم البطولة وموروث العزة، لا يعرف الهزيمة ولا يقبل الانطفاء. هو أرض معطاء، تنبض بروح لا تهدأ، وروحها ولود، تلد من رحم المحن رجالاً ونساءً يجعلون من انكساراتهم جسوراً للنهوض، ومن ظلام أيامهم إشارات لفجر لا يخبو أبداً. هنا، في هذه الأرض الصامدة، لا تنضب ينابيع الكرامة، ولا تذبل ورود الأمل، بل يتجدد السودان مع كل لحظة، كما تتجدد الحياة في أعماق الأرض، مقاوماً كل عاصفة، متحدياً كل جدار، ليبقى شاهداً حياً على أن الانتصار حتمية تنبع من الإيمان بالذات وقوة الإرادة.
abudafair@hotmail.com