استحق برعي الصديق الإقالة؛ فهل يستحق المحاكمة؟

السودان – اليوم التالي

مهند عوض محمود

بدءاً؛ لا بد من الإشادة بمجلس السيادة بقيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان على قراراته التصحيحية الشجاعة التي تهدف إلى تقويم مسار الدولة ووضع كل أمر في نصابه الصحيح؛ فالتميّز الحقيقي لمجلس السيادة أنه خالٍ من المحاصصات الحزبية والمساومات السياسية الضيقة؛ مما منحه القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية في لحظات حرجة لا تحتمل التأجيل؛ وهذه سِمة القيادة الوطنية التي تنحاز للوطن لا للحزب، وللمصلحة العليا لا للمكاسب الخاصة.

 

لقد انتقدنا خلال الأشهر الماضية بأقلامنا وأقوالنا أداء بنك السودان المركزي وسياساته التي أثارت الجدل في أوساط الخبراء والمواطنين على حد سواء؛ وكتبنا مرارًا محذّرين من آثارها المدمّرة على الاقتصاد الوطني؛ وطالبنا بإقالة المحافظ لما لمسناه من خللٍ مؤسسي وتفرّدٍ في اتخاذ القرار بعيدًا عن التنسيق الواجب مع وزارة المالية ووزارات القطاع الاقتصادي الأخرى؛ ولا نقول اليوم إن الإقالة جاءت استجابة لما كتبناه أو لما عبّر عنه الرأي العام المختلف؛ بل جاءت استجابةً للأصح والأقوم، لما فيه مصلحة البلاد العليا وأمنها القومي الذي يُعد الاقتصاد أحد ركائزه الأساسية.

 

لقد أسهم بنك السودان المركزي – بسياساته الأخيرة – بصورة مباشرة في تدهور الاقتصاد والعملة الوطنية؛ فقد أقدم على منع البنوك التجارية من تمويل الصادرات، مما عطّل حركة التجارة الخارجية وقلّل من موارد البلاد من النقد الأجنبي؛ كما أوقف تمويل المحاصيل الزراعية لموسمين متتاليين، وهو قرار كارثي أثّر على المنتجين والمصدرين وأدى إلى فقدان البلاد لموسمين متتابعين من العائدات الزراعية التي تُعد من اهم مصادر العملة الصعبة؛ ثم جاء منع تمويل الذهب، الذي يمثل الشريان الاقتصادي الأهم للسودان، ليعمّق الأزمة أكثر ويجفّف شرايين الاقتصاد الوطني.

 

أما قرارات احتكار صادر الذهب، فقد كانت الخطأ الأكبر الذي ارتكبه بنك السودان المركزي؛ وفي أحد مقالاتي السابقة حاولتُ قراءة هذا القرار على أنه ربما يمثل توجّهًا استراتيجيًا لتكوين احتياطي ذهبي للدولة يُستخدم في تمويل مشاريع الإعمار أو المشروعات طويلة الأمد؛ غير أن الواقع أثبت أن تلك السياسات نُفِّذت دون تخطيطٍ مسبقٍ أو أسواقٍ بديلةٍ جاهزة، فجاءت نتائجها عكسية تمامًا؛ إذ واصلت العملة الوطنية تدهورها رغم كل التبريرات والادعاءات.

 

قد يرى البعض أن للمحافظ المقال بعض الإسهامات في دعم وتمويل حرب الكرامة من خلال موقعه؛ وربما يعتبرون ذلك مبررًا لبقائه أو حصانةً له من المساءلة؛ لكن الوقائع تدل بوضوح أن الإنفاق على الحرب انسجم مع أجندته الممنهجة لتدمير الاقتصاد الوطني؛ فالصرف الكبير مصحوبًا بسياسات نقدية وائتمانية معيبة لم يخدم الحرب بقدر ما أوجد آليات لابتلاع موارد الدولة وتقويض مقدراتها؛ وبعبارة أدق؛ ما بدا دعمًا للحرب تحول إلى وسيلة لإضعاف الاقتصاد وتمكين المستفيدين من الفوضى.

 

إن تداخل هذه الخيوط وتشابكها يفرض علينا المطالبة بفتح تحقيقٍ شفافٍ وواضح مع المحافظ المقال ونوابه؛ يجب أن تُكشف الدوافع الحقيقية وراء تلك السياسات النقدية والمصرفية التي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار؛ وينبغي أيضًا التحقيق في الأسباب التي دعت لجنة التمكين سابقًا إلى إقالة برعي الصديق، والأسباب التي أعادته لاحقًا إلى موقع المحافظ؛ فمثل هذه القرارات الملتبسة لا يمكن تجاوزها في دولةٍ تخوض حربًا على جبهتين: جبهة السلاح وجبهة الاقتصاد.

 

نحن في مرحلة لا تحتمل المجاملة ولا أنصاف الحلول؛ لا مكان فيها للون الرمادي؛ فالوطن يواجه حربًا مفتوحة وصلت حد الارتزاق والاستهداف المنظم؛ وإن كانت هناك أيادٍ تعبث باقتصاده من الداخل، فيجب أن تضرب بيدٍ من حديد؛ فالمتآمر الخارجي لا ينجح إلا حين يجد من يخدمه من الداخل، والطابور الخامس اليوم أخطر من أي وقت مضى؛ وقد أثبتت التجارب التاريخية أن الطابور الخامس الاقتصادي كان دائمًا أداة فعّالة لإسقاط الدول من داخلها؛ فقد حدث ذلك في الاتحاد السوفيتي حين تسللت عناصر داخلية إلى المؤسسات المالية وسببت ندرةً مصطنعة وانهيارًا نقديًا؛ كما تكرّر المشهد في العراق وليبيا، رغم محاولات نفيه، من خلال فوضى مصرفية مقصودة وتهريبٍ للموارد؛ والسودان نفسه في عام 2018 شهد أزمة اقتصادية مفتعلة كانت أحد أبرز أدوات ما يسمّى بـ“الفوضى الخلاقة”؛ إذ جرى خلق ندرة في الوقود والدقيق وغيرها من السلع الأساسية، ولا نريد الخوض في تفاصيل اعتقال اثنين من كبار مورّدي الوقود آنذاك؛ لكن تلك الأحداث كانت من الأسباب الجوهرية في إشعال المظاهرات التي أنهت حكم الإنقاذ بعد ثلاثين عامًا من السلطة.

 

إن إقالة محافظ بنك السودان المركزي خطوة في الاتجاه الصحيح؛ لكنها لا تكفي ما لم تُستكمل بتحقيقٍ شاملٍ ومحاسبةٍ عادلةٍ لكل من تسبب في إنهاك الاقتصاد الوطني؛ كما يجب التريث في تعيين خليفته، لأن المرحلة تحتاج إلى شخصية اقتصادية وطنية صلبة، تمتلك خبرةً حقيقية في إدارة اقتصاد الحرب وإدارة الأزمات وقادرة على إعادة الثقة إلى النظام المصرفي واستقرار سعر الصرف؛ السودان مليء بالكفاءات الوطنية المؤهلة، والمطلوب فقط أن تُمنح الفرصة لمن يستحقها؛ فهذه البلاد لا تحتمل المزيد من التجارب الفاشلة ولا السياسات المرتجلة وفقا لمصادر وكاله المحقق الإخبارية.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب