مهند عوض محمود ـ اليوم التالي
أبارك لمصر حكومةً وشعباً، وعلى رأسهم فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، افتتاح المتحف المصري الكبير في الجيزة؛ هذا الصرح الحضاري الذي يجسد عظمة التاريخ المصري ويمثل رسالة ثقة واستقرار في زمنٍ مضطرب .. المتحف الذي يضم أكثر من مئة ألف قطعة أثرية من مختلف العصور؛ يؤكد أن مصر التي صاغت تاريخ الإنسانية ما زالت قادرة على صناعة الحاضر وقيادة المستقبل.
لكن بينما يضيء المتحف صفحة من المجد، تفتح الجغرافيا الجنوبية صفحة أخرى مليئةٌ بالتعقيدات ؛ فالحرب في السودان تجاوزت حدودها المحلية لتصبح قضية أمن إقليمي تمسّ القاهرة مباشرة؛ لا سيما بعد سقوط مدينة الفاشر في يد قوات الدعم السريع ؛ هذا الحدث لم يكن مجرد تطور ميداني؛ بل نقطة تحوّل استراتيجية كشفت أن ميزان القوى في غرب السودان يتغير بسرعة؛ وأن حدود مصر مع السودان قد دخلت دائرة الخطر الحقيقي.
سقوط الفاشر يعني عملياً أن الدعم السريع بات يسيطر على معظم دارفور؛ وأن ممرات الإمداد من الحدود التشادية وحتى تخوم الصحراء الليبية أصبحت مفتوحة أمامه؛ وهذا يترجم إلى تهديد مزدوج لمصر؛ فسوف يخلق فراغاً أمنياً واسعاً يسمح بانتقال السلاح والعناصر المتطرفة عبر الصحراء نحو الغرب المصري؛ وتمدّد الفوضى إلى الشرق والشمال.
دارفور بطبيعتها الجغرافية المتصلة بالعمق الإفريقي لطالما كانت منطقة تماس حساسة؛ ومع سقوط الفاشر انتقلت حدود الخطر خطوة إلى الأمام؛ فالطريق إلى شمال كردفان بات مفتوحاً، ومدينة الأبيض أصبحت الهدف التالي في الحسابات الميدانية ؛ وإذا فقد الجيش السوداني السيطرة عليها؛ فسيُفتح الممر نحو النيل الأبيض، أي نحو قلب الدولة. وهنا تحديداً تتقاطع مصالح القاهرة مع الخرطوم؛ لأن انهيار الأبيض لا يعني فقط سقوط عقدة المواصلات السودانية؛ بل تهديداً مباشراً لاستقرار الحدود الجنوبية المصرية واندفاع موجات نزوح ضخمة شمالاً.
من منظور استراتيجي، تدرك مصر أن ترك دارفور تتحول إلى منطقة نفوذ مفتوحة سيخلق بيئة مشابهة لما حدث في جنوب ليبيا بعد 2011؛ مزيج من الميليشيات والمرتزقة وشبكات التهريب العابرة للحدود ؛ وهذه التهديدات لا تحتاج إلى جيش نظامي لمواجهتها؛ بل إلى منظومة استخبارية ولوجستية دقيقة قادرة على المراقبة والتدخل السريع عند الضرورة؛ ومن هنا تبرز أهمية التحرك المصري الأحادي بعيداً عن بطء التفاهمات الرباعية
التحرك الأحادي المصري لا يعني تدخلاً عسكرياً مباشراً؛ بل يبدأ بتكثيف الدعم الاستخباري والفني للجيش السوداني، وتزويده بالصور الجوية والمعلومات الميدانية الدقيقة، وتنسيق خطوط الإمداد عبر المعابر الشمالية والشرقية؛ كما يشمل إقامة ممرات مصرية آمنة بين الحدود ومناطق سيطرة الجيش من بورتسودان إلى الأبيض؛ لتأمين نقل المساعدات والإمدادات وحركة الإجلاء عند الحاجة . هذه الممرات تُدار بإشراف مصري كامل وبالتنسيق المباشر مع القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية دون أي غطاء خارجي؛ فهي امتداد طبيعي لمفهوم الأمن المشترك بين البلدين ووحدة المصير بين الشعبين.
سقوط الفاشر ربما يعيد إلى القاهرة قناعة راسخة بأن استقرار السودان لا يُبنى بالوساطات وحدها؛ بل بالقدرة على حفظ التوازن الميداني ومنع الفوضى من التمدد. فالرباعية الدولية قد توفر منصة سياسية؛ لكنها بطيئة في التفاعل مع المتغيرات العسكرية السريعة؛ بينما يفرض الواقع أن تكون مصر اللاعب الأقرب والأكثر دراية بتفاصيل المشهد السوداني؛ والأقدر على مخاطبة الجيش السوداني بلغة الأخوّة والتاريخ المشترك. ومن هنا يكون التفكير في الانتقال التدريجي من الدبلوماسية المتعددة الأطراف إلى التحرك الأحادي المدروس الذي يضمن حماية الأمن القومي دون استفزاز المجتمع الدولي أو تجاوز السيادة السودانية.
القاهرة تنظر اليوم إلى السودان باعتباره عمقها الاستراتيجي وليس مجرد جار؛ فكل ضعف في مؤسسات الدولة السودانية يعني هشاشة في جدار الأمن المصري؛ وكل تمدد لقوات خارجة عن السيطرة يعني اقتراب الخطر من شريان النيل والبحر الأحمر. لذا فإن مصر لا يمكن أن تقف متفرجة على تحولات ميدانية بهذا الحجم؛ ولن تسمح بأن يتحول غرب السودان إلى ساحة نفوذ لمليشيات أو قوى أجنبية.
وفي ضوء ذلك، اعتقد ان مصر يمكن ان تعمل على بناء سياستها على ثلاثة محاور مترابطة؛ دعم الجيش السوداني باعتباره المؤسسة الوحيدة القادرة على حفظ وحدة البلاد؛ تأمين الحدود الغربية والجنوبية ضد أي تسلل أو تهريب؛ والتحرك الدبلوماسي المتوازن الذي يمنحها شرعية الإسناد دون الدخول في مواجهة مباشرة.
إن سقوط الفاشر لم يكن نهاية المعركة بل بدايتها الحقيقية؛ فقد كشف حجم الفراغ الذي يمكن أن ينشأ حين تغيب الدولة، وبيّن للقاهرة أن الانتظار لم يعد خياراً؛ من هنا يتبلور القرار المصري في أن يكون التدخل محسوباً، مرناً، ومتدرجاً، لكنه حاسِمٌ حين يقترب الخطر من خطوطها الحمراء.
وهكذا، كما استعادت مصر في المتحف الكبير رمزية حضارتها وذاكرتها العميقة؛ فإنها تستعيد اليوم دورها التاريخي في حماية محيطها الجنوبي. فالمتحف ليس مجرد بيتٍ للآثار؛ بل هو رمزٌ لدولة تعرف كيف تحرس تاريخها كما تحمي حدودها، وتستثمر في قوتها الناعمة كما تدير قوتها الصلبة بحكمة وتوازن؛ وبين جدران المتحف حيث تُعرض تماثيل الملوك، وفي سماء السودان حيث يُعاد رسم توازنات القوة، تثبت مصر أنها ما زالت هي الركيزة التي تستند إليها المنطقة؛ حارسة الممرات، وراعية الاستقرار، وصاحبة القرار حين تختلط الأصوات وتضيع الاتجاهات وفقا لمصادر وكالة المحقق الإخبارية.
