مالي… مركز قوي وأطراف منفلتة: تفكّك الاتفاقات وصعود الحركات المسلحة

مالي – اليوم التالي

مهند عوض محمود

تشهد مالي اليوم لحظة فارقة تبرز فيها مفارقة واضحة بين مركز ما يزال متماسكاً في يد الجيش، وأطراف انفلتت من قبضة الدولة وتحوّلت إلى ساحات مفتوحة تتصارع فيها الحركات الأزوادية والجماعات الجهادية وشبكات التهريب العابرة للحدود. فمنذ سقوط نظام القذافي عام 2011؛ تدفقت إلى الشمال المالي مجموعات كبيرة من المقاتلين الطوارق الذين خدموا في ليبيا وعادوا بأسلحة متوسطة وثقيلة وخبرة قتالية واسعة؛ ومع هشاشة مؤسسات الدولة وغياب التنمية عن مناطق أزواد، وجد هؤلاء العائدون بيئة خصبة لتأسيس الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والتي التحقت بها لاحقاً فصائل أخرى، لتتشكل “تنسيقية الحركات الأزوادية” (CMA) التي رفعت سقف مطالبها نحو حكم ذاتي واسع وربما استقلال فعلي.

 

وبفضل تسليح نوعي وحركة خفيفة في الصحراء؛ تمكّنت الحركات الأزوادية من السيطرة على أجزاء واسعة من الشمال، مستفيدة من انهيار الجيش المالي حينها وقلة انضباطه؛ إذ لم يكن قوام القوات المسلحة يتجاوز بضعة آلاف من الجنود المجهزين تجهيزاً متواضعاً، بينما استطاعت CMA حشد قوة قتال تُقدّر بعشرة آلاف مقاتل في ذروة صعودها؛ معظمهم من الطوارق العائدين من ليبيا أو المنتمين إلى قبائل لها امتداد عميق في كيدال وتمبكتو وغاو. في المقابل؛ برزت “منصة الحركات الموالية لباماكو” كتحالف شمالي مسلح يقاتل إلى جانب الدولة؛ وعلى رأسه “غاتيا” ذات الارتباط الوثيق بكبار ضباط الجيش؛ والجناح العربي من الحركة الأزوادية؛ إلى جانب ميليشيات قبلية متحالفة مع باماكو ضد CMA.

 

هذا التوازن الهشّ دفع الجزائر لقيادة وساطة طويلة انتهت إلى توقيع “اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر” عام 2015؛ وهو اتفاق ضخم اعتمد على إعادة هيكلة الحكم المحلي؛ وتوسيع اللامركزية في الشمال؛ وتنفيذ برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج؛ وبناء وحدات مشتركة بين الجيش والمقاتلين السابقين. لكنه اتفاق وُلد محاطاً بثغرات جوهرية؛ أولها أنه استبعد الفاعلين الأكثر تأثيراً في وسط مالي من الجماعات الجهادية والميليشيات المحلية؛ كما عجزت الحكومة عن تقديم صيغة واضحة للامركزية تتجاوز نموذج البلديات التقليدية؛ فيما رأت الحركات الأزوادية أن باماكو تتباطأ عمداً في منح الأقاليم الشمالية سلطات فعلية. وزاد الأمر تعقيداً أنّ مسار دمج المقاتلين تعثّر لسنوات؛ وتحوّل DDR إلى خطوة بطيئة ومجزأة؛ لم تنتج قوة مشتركة قابلة للعمل الميداني.

 

جاءت الانقلابات العسكرية في 2020 و2021 لتنسف ما تبقى من المسار السياسي؛ حيث علّق الاتحاد الإفريقي عضوية مالي؛ وندّد بالانقلاب؛ ودعا إلى عودة النظام الدستوري؛ لكن نفوذه تراجع سريعاً بعد دخول روسيا بثقل أكبر عبر مجموعة فاغنر التي استبدلت لاحقاً بـ“فيلق إفريقيا”؛ القوة الروسية التي تتبع لوزارة الدفاع مباشرة؛ وتضم وحدات قتالية وتدريبية واستخباراتية تنفذ عمليات مشتركة مع الجيش المالي؛ وتوفّر له التسليح والدعم والمعلوماتي؛ وتؤمّن مواقع التعدين الحيوية. وقدّم هذا التحالف لباماكو غطاءً عسكرياً وسياسياً مكّنها من استعادة مدن مركزية مثل كيدال في أواخر 2023؛ لكنه لم يمنحها القدرة على السيطرة على الصحراء الشاسعة التي تستعيد فيها CMA وحلفاؤها نفَسهم باستمرار.

 

وفي خضم هذه التحولات؛ خرجت مالي والنيجر وبوركينا فاسو من الإيكواس؛ بعد خلافات حادّة حول العقوبات المتعلقة بالانقلابات؛ ليعلن قادة الدول الثلاث تأسيس “تحالف دول الساحل” AES؛ وهو إطار جديد يقوم على الدفاع المشترك؛ ويكرّس ابتعاد هذه الدول عن الفضاء الإقليمي التقليدي؛ ويقربها أكثر من موسكو. ورغم أهميته كغطاء سياسي؛ لم يستطع هذا التحالف تقديم حلول اقتصادية أو أمنية للأزمات المركّبة التي تعصف بالمناطق الريفية.

 

أما اليوم؛ فإن المشهد الميداني يُظهر دولة تسيطر على المدن وتفقد الأطراف؛ فالجيش المالي وفيلق إفريقيا يمسكان بزمام الأمن داخل العواصم الإقليمية؛ بينما تتحرك CMA بسهولة في الصحراء؛ معتمدة على الكمائن والضربات الخاطفة وقطع خطوط الإمداد؛ وتستعيد مواقعها شيئاً فشيئاً خارج المدن. وفي الوقت ذاته يتمدد تنظيم الدولة في ميناكا والحدود النيجرية؛ ويفرض نفوذاً على قرى ومسارات تجارة؛ فيما تعزز القاعدة حضورها في وسط مالي وحول تمبكتو؛ معتمدة أسلوب الاغتيالات وزرع العبوات والسيطرة الليلية على التجمعات الريفية. وبين هذه القوى الثلاث؛ تقف الدولة في موقع دفاعي دائم؛ رغم الدعم الروسي؛ لأنها لا تمتلك القدرة اللوجستية والاستخبارية الكافية للسيطرة على جغرافيا شاسعة يسكنها مزيج من القبائل والجماعات المسلحة وشبكات التهريب.

 

اقتصاد الشمال يعاني من الانهيار؛ فالمسالك التجارية أُغلقت؛ ونقاط التفتيش المتعددة رفعت تكاليف النقل؛ والنزوح يتزايد؛ وأسعار الغذاء ترتفع؛ فيما تتراجع قدرة الحكومة على تقديم الخدمات العامة؛ ويزداد شعور السكان بأن المركز لا يحكم الأطراف إلا نظرياً.

 

وتزداد هذه الصورة قتامة حين يُناقش الأمر في ضوء تجارب إقليمية أخرى؛ إذ يبرز السودان مثالاً معاكساً من حيث تماسك الجيش وقدرته على حماية المركز وحصر القتال في نطاق جغرافي محدد؛ فالقوات المسلحة السودانية ما تزال متماسكة وتحافظ على مركز الدولة؛ ونجحت في حصر القتال في دارفور وكردفان وتحقق تقدماً ثابتاً في هذه الجبهات؛ وهو وضع يختلف جذرياً عن مالي التي فقدت أطرافها لصالح الحركات المسلحة والجماعات المتطرفة. غير أنّ السودان، بخلاف التجربة المالية، يمتلك رصيداً اجتماعياً وسياسياً مختلفاً؛ إذ يقف أغلب الشعب السوداني خلف قواته المسلحة والقوات المشتركة بوعي عميق وإدراك لطبيعة الصراع ولمخاطر إعادة إنتاج نموذج الهشاشة الذي ولّد انفلات الأطراف في مالي. هذا الاصطفاف الشعبي؛ مع الرفض الواسع لفكرة الهدنة غير المنضبطة أو التسوية المائعة؛ يُبقي السودان بعيداً عن المسار الذي أوصل مالي إلى حالة الانكشاف، حيث فتحت الاتفاقيات المتآكلة الباب أمام تعدد مراكز السلاح وتوسع التدخلات الخارجية. إن صلابة الموقف الشعبي، وتمسّكه بخيار الدولة الواحدة وسلاح واحد، يجعل مستقبل السودان مرتبطاً بقدرة جيشه على استكمال المعركة ودحر التمرد ، أو فرض اتفاق حقيقي يضمن تفكيك الميليشيا لا مهادنتها؛ بينما تظل مالي أسيرة فراغٍ سمح بصعود القوى المسلحة وتدخل القوى الدولية، ليدخل البلد مرحلة مفتوحة من التعقيدات والصراعات، تُحدَّد ملامحها وفقاً لمن يملك المبادرة في الصحراء لا في العاصمة وفقا لمصادر وكالة المحقق الإخبارية


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب