مهند عوض محمود – اليوم التالي
لعبت الحركة الإسلامية السودانية دورًا مهمًا في تشكيل الحياة الفكرية والسياسية منذ منتصف القرن العشرين، حين خرجت من فضاء الدعوة الطلابية إلى ساحة العمل العام، متنقلة بين جبهة الدستور الإسلامي، وجبهة الميثاق، والجبهة الإسلامية القومية، قبل أن تكمل حضورها في مرحلة الإنقاذ. وقد عُرفت الحركة بقدرتها على التكيّف وتغيير أدواتها، والانتقال من صيغة تنظيمية إلى أخرى وفق مقتضيات الواقع، مع احتفاظها بجوهر فكري واجتماعي ظل مؤثرًا في المجتمع السوداني لعقود طويلة.
وعلى امتداد هذا التاريخ، لم تكن الحركة جسماً واحداً مغلقاً، بل شهدت مراجعات داخلية وانقسامات فكرية مثل خروج مجموعة الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد (رحمه الله ) التي فضّلت الصيغة الإخوانية التقليدية، والاحتفاظ باسم جماعة الاخوان المسلمون ؛ فيما اتجه التيار الأوسع نحو مشروع أكثر استقلالًا عن التنظيم الدولي وأكثر اتصالاً بالواقع السوداني. وقد واجهت الحركة مراحل محنة في عهد مايو، ثم دخلت في المصالحة الوطنية، حيث توسّع نشاطها الاجتماعي والتعليمي والاقتصادي، لتعود بعدها لاعبًا بارزًا في المشهد بعد انتفاضة 1985، مستندة إلى تنظيم محكم وقاعدة شبابية واسعة.
ومع مجيء الإنقاذ، انتقلت الحركة إلى طور جديد امتزج فيه طموح الهوية الإسلامية بمهام الدولة. وقد أسهمت الحركة في التعبئة العامة، وفي تثبيت روح الانضباط، وفي الدفاع عن البلاد في لحظات الخطر، كما شهد السودان خلال تلك الفترة توسعًا في التعليم، ونموًا في الخدمة الوطنية، وبروز نخب جديدة أثرت في الحياة العامة. كانت تلك مرحلة ذات أثر كبير، بما لها وما عليها، وقدمت فيها الحركة الكثير من أبنائها ومقدراتها خدمةً لمشروع رأت فيه تعبيرًا عن رؤيتها للدين والوطن.
لكن مع مرور الزمن وتعقّد المشهد الإقليمي والدولي، وجد السودانيون أنفسهم أمام واقع جديد: فاسم الحركة الإسلامية – رغم عدم ارتباطها بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين وبقاء تجربتها سودانية خالصة – أصبح يُستدعى في كل مرة ترغب فيها بعض القوى الإقليمية أو العالمية قراءة الوضع السوداني من زاوية الشك والريبة. ولم يعد التمييز بين الدولة والتنظيم واضحًا في أذهان كثيرين خارج السودان، مما جعل اسم الحركة أكثر ارتباطًا بالاستقطاب والصراع، وأصبح في بعض اللحظات عبئًا على العلاقات الخارجية وعلى قدرة السودان على تقديم نفسه بصورة جديدة تتجاوز تركة العقود الماضية.
وفي الداخل، تغيّر جيل كامل لم يعايش المراحل الدعوية الأولى، وصارت معرفته بالحركة مرتبطة بالجانب السياسي وحده، مما أنتج فجوة في التقدير بين الصورة التاريخية والصورة الراهنة. ومع الحرب الحالية وما فرضته من تحديات وجودية على السودان، ازدادت الحاجة إلى تأسيس عقد وطني جديد يقوم على إزالة كل رواسب الاستقطاب التي قد تُستخدم لتعطيل إعادة بناء الدولة أو عزلها عن محيطها.
إن الأحداث المتسارعة وتوازنات القوى في الإقليم والعالم تشير بوضوح إلى أن السودان يحتاج إلى فتح صفحة جديدة مع الجميع، وأن حل التنظيم السياسي للحركة الإسلامية – بما تمثله من إرث طويل وظلال ممتدة – سيكون خطوة تفتح الباب أمام انفتاح أكبر في علاقات السودان الخارجية، وتخفف من حساسيات ليست مرتبطة بواقع اليوم، وتزيل من يد خصوم السودان أداة جاهزة تُستخدم كلما أرادوا تأليب الرأي العام أو ممارسة الضغط السياسي.
هذه القراءة، المستندة إلى الاطلاع على المسار التاريخي ومآلات اللحظة الراهنة، تُظهر أن الحركة – التي عُرفت بمرونتها وقدرتها على التغيير – قادرة اليوم على اتخاذ القرار الأكثر نضجًا في تاريخها: إنهاء وجودها كتنظيم سياسي، وإعادة رسالتها إلى فضائها الطبيعي داخل المجتمع، بعيدًا عن الدولة والصراع. وهي خطوة لا تنكر تاريخ الحركة ولا تقلّل من إسهاماتها، بل تحمي ما تبقى من صورتها وتحوّله من مادة للجدل إلى رصيد روحي وفكري يمكن أن يخدم الوطن دون أن يكون عبئًا عليه.
وبما أن المجتمع السوداني متديّن بطبعه ويميل إلى الوسطية، فإن الفضاء الصوفي الواسع في البلاد قادر على حمل الرسالة الأخلاقية والدعوية دون أن يكون جزءًا من اللعبة السياسية أو مدخلًا للتوترات الخارجية. فالتصوف في السودان – بما يمثله من إرث روحي جامع – قادر على تعزيز السكينة والقيم دون تحميل الدولة أو المجتمع أعباء جديدة.
إن حلّ التنظيم السياسي للحركة الإسلامية اليوم خطوة تضع السودان أولًا، وتفتح الطريق أمام إعادة بناء العلاقات الخارجية على أسس جديدة، وتمنح المجتمع فرصة لاستعادة توازنه، وتتيح للدولة أن تتقدم دون ظلال أثقالها القديمة. وهي خطوة تحتاج إلى شجاعة ومسؤولية، لكنها بلا شك ستكون أحد أهم القرارات التي تُتخذ لصالح مستقبل السودان واستقراره ووحدته.
