مصر والسعودية… الثقل الإقليمي في إنهاء حرب السودان وإغلاق مسارات إعادة الانفجار

مهند عوض محمود – اليوم التالي

 

تأتي التحركات المصرية – السعودية تجاه السودان في لحظة إقليمية دقيقة؛ ليس لأن الحرب بلغت ذروة جديدة من العنف؛ بل لأن البيئة السياسية الدولية المحيطة بها بدأت تشهد تحولًا مقلقًا في طريقة التعاطي معها؛ تحولًا يميل إلى إدارة الصراع بدل إنهائه؛ وإلى تحويل الحرب من أزمة مؤقتة إلى حالة طويلة الأمد تُدار بأدوات إنسانية وسياسية رخوة؛ من دون معالجة جذورها البنيوية.

في هذا السياق؛ تتحرك القاهرة والرياض انطلاقًا من إدراك استراتيجي بأن الحلول الرمادية؛ مهما بدت جذابة في لحظتها؛ تحمل في طياتها بذور انفجار مؤجل.

 

زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة؛ الخميس الماضي؛ لم تكن زيارة بروتوكولية ولا محطة دعم معنوي؛ بل لحظة سياسية محسوبة هدفت إلى إعادة ضبط مسار النقاش حول الحرب ونهاياتها. فالحرب في السودان مرّت بمحطات أشد دموية؛ من حصار الفاشر إلى سقوط آلاف المدنيين واتساع رقعة الدمار؛ ومع ذلك لم تُقدم القاهرة حينها على إعلان خطوط حمراء صريحة أو التلويح بتفعيل اتفاقيات الدفاع المشترك. الجديد هذه المرة لم يكن في الميدان بقدر ما كان في المسار السياسي الدولي الذي بدأ يتشكل خلال الأسابيع السابقة للزيارة.

 

 

في تلك الأسابيع؛ برز اتجاه عملي داخل دوائر غربية مؤثرة للتعامل مع الحرب بوصفها نزاعًا طويل الأمد قابلًا للإدارة لا للحسم. هذا الاتجاه ظهر في نقاشات داخل وزارة الخارجية الأمريكية ومجلس الأمن القومي في واشنطن؛ وفي مقاربات جهاز العمل الخارجي للاتحاد الأوروبي (EEAS) في بروكسل؛ إضافة إلى مداولات داخل وزارة الخارجية البريطانية (FCDO) في لندن. كما تعزز هذا المناخ عبر تحليلات وتقارير صادرة عن مراكز تفكير مؤثرة مثل International Crisis Group؛ وEuropean Council on Foreign Relations (ECFR)؛ وChatham House؛ حيث طغت مفاهيم خفض العنف؛ وتثبيت وقف إطلاق نار قابل للاستمرار؛ والوصول الإنساني؛ على حساب الحديث الصريح عن تفكيك المليشيات؛ واستعادة احتكار الدولة للسلاح؛ وبناء سلطة سيادية واحدة.

 

وقد تبلور هذا الاتجاه بصورة أوضح عقب المؤتمر الإنساني حول السودان في باريس؛ حين تصاعد الدفع نحو هدنة طويلة الأمد بوصفها المدخل “العملي” الوحيد؛ في مقابل غياب خريطة طريق سياسية–أمنية واضحة تُغلق مسألة ازدواجية السلطة والسلاح. هذا التركيز الإنساني المشروع؛ حين ينفصل عن تصور متكامل لما بعده؛ يتحول عمليًا إلى غطاء سياسي لتأجيل الأسئلة الصعبة؛ لا للإجابة عنها؛ ويؤسس لحالة “استقرار هش” تُدار لا تُحسم.

 

 

في هذا السياق جاءت زيارة القاهرة؛ ودلالتها الأساسية لا تكمن في سؤال مَن بادر بالدعوة بقدر ما تكمن في توقيت الاستجابة المصرية؛ وفي مضمون البيان الصادر بعدها. القاهرة قرأت اللحظة على أنها انتقال من خطر عسكري قابل للاحتواء إلى خطر بنيوي سياسي يطال تعريف الدولة نفسها. فالمسار الدولي الآخذ في التشكل؛ لو تُرك دون تصويب؛ كان سيقود إلى وقف إطلاق نار يُجمّد القتال؛ ويؤجل الحسم؛ ويُبقي مسألة السلاح والشرعية معلّقة؛ بما يسمح بتحويل نتائج الميدان إلى واقع تفاوضي دائم؛ أي إلى تسوية رمادية تُعيد إنتاج الصراع بأدوات أقل صخبًا وأكثر خطورة.

 

البيان المصري عكس هذا التحول بدقة؛ إذ أعاد تعريف موضوع النقاش من كونه نزاعًا بين أطراف إلى كونه قضية تتعلق بالدولة السودانية؛ ومؤسساتها؛ ووحدة أراضيها. بهذا التعريف؛ سُحبت الشرعية عن أي مقاربة تقوم على مساواة الدولة بقوة مسلحة خارج إطارها؛ وهو جوهر ما تستند إليه الحلول الرمادية. لم يهاجم البيان الهدنة لفظيًا؛ لكنه قيّدها سياسيًا وأخلاقيًا؛ حين جعلها مشروطة بنتائجها؛ لا بمجرد إعلانها.

 

وتتضح حدة الموقف المصري بصورة أكبر عند إدخال مفهوم الخطوط الحمراء. فالحديث عن خطوط لا يجوز تجاوزها لم يكن توصيفًا إنشائيًا؛ بل تحديدًا لسقف التسامح السياسي والأمني. حين ربطت مصر وحدة السودان وسلامة مؤسساته بأمنها القومي؛ فإنها نقلت الملف من دائرة الخلاف السياسي إلى دائرة التهديد المباشر. والأكثر دلالة أن هذا الربط اقترن بإشارة واضحة إلى الأطر القانونية والاتفاقيات القائمة؛ بما في ذلك اتفاقيات الدفاع المشترك؛ وهي إشارة ليست بروتوكولية؛ بل رسالة محسوبة بأن ما بعد الخطوط الحمراء ليس مساحة تفاوض إضافية؛ بل مجال خيارات عملية قد تصل؛ إذا فُرض الأمر؛ إلى التدخل العسكري المباشر لحماية الأمن القومي.

 

 

هذا التشدد المفاهيمي لا يعكس نزعة تصعيدية؛ بل منطق دولة كبيرة تدرك أن تجاهل الخطر البنيوي أخطر من مواجهته مبكرًا. فالسودان؛ بحكم الجغرافيا والتاريخ وتشابك المصالح؛ جزء من المجال الحيوي المصري؛ وأي تفكك في بنيته أو شرعنة لقوة مسلحة موازية لا يُنظر إليه كأزمة خارجية؛ بل كتهديد ممتد للاستقرار الإقليمي.

 

في هذا المشهد؛ يبرز الدور السعودي بوصفه ركيزة مكملة وحاسمة. فالسعودية ليست فقط صاحبة ثقل ديني؛ بل دولة قائدة للأمة العربية والإسلامية؛ تمتلك شرعية سياسية؛ ونفوذًا دوليًا؛ وقدرة على مخاطبة العواصم الغربية بلغة المصالح والاستقرار. هذا الثقل يجعل المقاربة المصرية قابلة للتدويل والقبول؛ ويمنحها غطاءً سياسيًا يمنع عزلها أو تصويرها كتشدد أحادي. ومن موقعها هذا؛ تسهم الرياض في تحويل الرؤية الرافضة للحلول السطحية إلى مسار إقليمي ذي مصداقية دولية؛ خصوصًا في ملفات أمن البحر الأحمر والممرات الاستراتيجية.

 

التكامل بين القاهرة والرياض لا يقوم على تقاسم أدوار شكلي؛ بل على تصور مشترك لمعنى الاستقرار ودور الدول الكبرى في صناعته. فإذا كانت القاهرة تمسك بعمق الجغرافيا والارتباط المباشر بالسودان؛ فإن الرياض تمسك بمفاتيح الشرعية الإقليمية والقبول الدولي؛ وتوازنات الإقليم الأوسع. هذا التقاطع هو ما جعل المقاربة التي ترفض التسويات الرمادية تحظى؛ خلال الأسابيع الأخيرة؛ بتفهم متزايد في بعض الدوائر الغربية؛ بعد أن تبيّن أن الهدن غير المؤطرة لا تُنهي النزاعات؛ بل تُعيد إنتاجها بأدوات أقل صخبًا وأكثر خطرًا.

 

في المحصلة؛ ما تطرحه مصر وتدعمه السعودية هو انتقال هادئ لكنه حاسم من إدارة الأزمة إلى هندسة نهايتها؛ رؤية ترفض أن يكون وقف إطلاق النار غاية في ذاته؛ وتصر على أن السلام الحقيقي يبدأ بإغلاق المسارات التي تعيد إنتاج الصراع. هي مقاربة لا تعد بنهاية سريعة؛ لكنها تسعى إلى نهاية قابلة للاستمرار؛ وتقوم على قناعة واضحة: إنهاء الحرب لا يتحقق بتجميد القتال مؤقتًا؛ بل بإغلاق مسارات إعادة الانفجار من جذورها وفقا لمصادر وكالة المحقق الإخبارية.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب