مهند عوض محمود – اليوم التالي
شهد مجلس الأمن في جلسته الأخيرة بشأن السودان تحوّلاً نوعياً في طريقة تناول ملف الحرب في بلادنا. فقد غابت لغة المراوغة القديمة، وحلّت مكانها لغة أكثر ارتباطاً بالميدان وموازين القوة، وبدا واضحاً أن العالم بات يتعامل مع الحرب بوصفها مواجهة تقترب من نهاياتها، لا صراعاً مفتوحاً بلا أفق. وقد اكتسبت الجلسة زخماً إضافياً مع مشاركة رئيس الوزراء كامل إدريس، الذي قدم رؤية متكاملة لوقف إطلاق النار، بينما كشفت كلمات مندوبي الدول الكبرى والإقليمية عن إعادة رسم صورة الحرب داخل العقل الدولي.
ممثل الولايات المتحدة في الجلسة، دفع مجدداً باتجاه هدنة إنسانية عاجلة بلا شروط مسبقة. هذا الطرح، رغم غلافه الإنساني، يحمل معنى سياسياً بالغ الأهمية: فهو يُبقي الميليشيا داخل المعادلة كطرف سياسي كامل الأهلية، لأن التفاوض على هدنة بلا شروط يعني الاعتراف الضمني بها كجسم سياسي يماثل الدولة في “حق المشاركة”. فالهدن غير المشروطة هي الأداة التي تكتسب بها الجماعات المسلحة صفات التمثيل السياسي وتنتقل من كونها قوة أمر واقع إلى “مكوّن مؤقت” في العملية الانتقالية. هذا هو جوهر الرؤية الأمريكية: تجميد خطوط السيطرة قبل أن يتغيّر وضع الميدان بشكل نهائي.
أما بريطانيا، فعادت عبر مندوبها إلى خطاب يعكس رغبة في استعادة دورها التاريخي داخل ملف دارفور. فمنذ مطلع الألفية، كانت لندن المحرك الدولي الأكبر في القرارات المتعلقة بالإقليم، وصاحبة الصوت الأقوى في الدفع ببعثة يوناميد، وفي تشكيل “خطاب الأزمة” داخل مجلس الأمن. غير أن هذا الدور تراجع لصالح الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة. ولذلك عندما تحدث مندوب بريطانيا عن “تراجع قدرة الميليشيا على إدارة مناطقها” وعن “اتساع رقعة الفوضى” في دارفور، كان في الواقع يعيد تقديم بريطانيا كفاعل رئيسي في ملف ظل لسنوات جزءاً من نفوذها السياسي داخل المجلس.
وجاءت كلمة فرنسا عبر مندوبها لتلفت الانتباه إلى البعد الإقليمي الأوسع للحرب. ففرنسا ترى أن تدفقات المرتزقة عبر دارفور إلى ليبيا ثم إلى تشاد والنيجر تمثل تهديداً مباشراً للأمن في الساحل، حيث تخوض باريس واحدة من أطول حروبها ضد الجماعات المسلحة. وقد أدت الانقلابات المتتالية في دول الساحل إلى تراجع نفوذها بشكل كبير، وبالتالي فإن أي موجة جديدة من المرتزقة القادمين من السودان ستعيد خلط الأوراق في فضاء الساحل بأكمله. لهذا جاء التحذير الفرنسي محمّلاً برسالة واضحة: لا استقرار في الساحل دون استقرار في دارفور.
أما روسيا، فقدمت رؤية ترتكز على رفض “تسييس الوضع الإنساني” والتأكيد على الحل المحلي. لكن خلف هذا الخطاب تكمن حسابات استراتيجية دقيقة: فموسكو تنظر إلى البحر الأحمر بوصفه أحد أهم ممرات التجارة والطاقة، وتسعى إلى بناء حضور لوجستي وبحري يضمن لها حرية حركة في وجه الضغوط الغربية. ومن هذا المنطلق، فإن استقرار الدولة – لا أي كيان مسلح – هو الخيار الوحيد الذي يوفر لروسيا البيئة اللازمة لتعزيز وجودها التجاري والبحري في المنطقة. ولهذا جاء خطاب موسكو أقرب إلى دعم الدولة دون إعلان مباشر.
وفي الإطار العربي، جاءت كلمة مصر التي ألقاها مندوبها الدائم الأكثر وضوحاً وحزماً. فقد أكدت القاهرة أن الحفاظ على الدولة ووحدتها شرط أساسي لاستقرار الإقليم، وأن أي محاولة لوضع الميليشيا على قدم المساواة مع مؤسسات الدولة تمثل خطراً على الأمن القومي المصري
وفي أواخر الجلسة جاءت كلمة رئيس الوزراء كامل إدريس التي قدمت تصوراً واضحاً لوقف إطلاق النار. تقوم الخطة على انسحاب الميليشيا من المدن والأعيان التي تحتلها، وتجميعها في معسكرات تحت رقابة دولية وإقليمية، والشروع في عملية نزع سلاح تدريجية قبل أي مسار سياسي. وأكد إدريس أن الخطة “محلية الصنع”، في رسالة صريحة بأن الدولة تريد تقديم الحل لا تلقيه من الخارج. وفي جوهرها، ليست هذه المبادرة هدنة بالمعنى التقليدي؛ بل إعادة تعريف لمفهوم السلام نفسه: سلام يبدأ بتقليص القوة العسكرية للميليشيا، بحيث تصبح العملية السياسية لاحقاً عملية إعادة دمج أفراد، لا شراكة مع كيان مسلح.
وفي هذا السياق، جاءت كلمة رئيس الوزراء منسجمة مع الرؤية التي أعلنتها القوات المسلحة أكثر من مرة على لسان الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والتي تشترط لأي هدنة انسحاب الميليشيا من المدن، وتجميع قواتها في معسكرات تحت رقابة، والبدء في عملية نزع سلاح قبل الدخول في أي ترتيبات سياسية. الفرق الوحيد أن إدريس قدّم هذه الرؤية بلغة دبلوماسية موجهة لمجلس الأمن، مستنداً إلى خبرته الطويلة في المنظمات الأممية، ومترجماً المعادلة العسكرية التي عبّرت عنها القوات المسلحة إلى صياغة سياسية قابلة للتداول في المنصات الدولية. بهذا المعنى، لم تكن مبادرته خروجاً عن خط الدولة، بل إعادة تقديم للرؤية ذاتها بقالب دبلوماسي يناسب مقام مجلس الأمن.
وبناءً على مسار الجلسة، تبدو فرص نجاح مبادرة رئيس الوزراء ضعيفة جداً في المدى القريب، ليس لخلل في مضمونها، بل لأن شروطها تقوم على نزع السلاح، وهو ما ترفضه الميليشيا، ولأن بعض القوى الكبرى تدفع نحو هدنة غير مشروطة تتعارض مع الرؤية المحلية للحل. أما احتمال تحوّل المبادرة إلى وثيقة مرجعية تُستأنف منها مناقشات لاحقة فهو الاحتمال الأكثر واقعية إلى حين اتضاح صورة الميدان.
أما السيناريوهات المتوقعة بعد الجلسة، فتنقسم إلى ثلاثة مسارات أساسية:
المسار الأول: ضغط متصاعد نحو هدنة إنسانية بلا شروط
تسعى الولايات المتحدة لاستباق أي تغيير جذري في الوضع الميداني عبر تجميد الجبهات مؤقتاً، وفتح الباب لمسار سياسي تقوده الرباعية، مع محاولة تضمين الميليشيا في العملية السياسية.
المسار الثاني: تنامي الاعتراف الدولي بأن الحرب تدخل مراحلها الأخيرة
استخدام كثير من الدول لعبارات مثل “مرحلة ما بعد النزاع” و“اليوم التالي” يعكس شعوراً بأن الميدان يفرض واقعاً جديداً، وأن العالم بدأ يفكر في طبيعة السلطة بعد توقف القتال، ومسارات إعادة الإعمار، وترتيب القطاع الأمني.
المسار الثالث: تعزيز الدور المصري–السعودي بوصفه الإطار الإقليمي الأكثر ثباتاً
فالتناغم بين القاهرة والرياض يشكل العمود الفقري لأي حل قابل للاستمرار. فكلاهما يرفض المساواة بين الدولة والميليشيا، ويصر على أن استقرار السودان شرط لاستقرار البحر الأحمر وشرق أفريقيا. ومع اتساع الفراغ في المظلات الإقليمية الأخرى، يزداد اعتماد العالم على المحور العربي بوصفه ضامناً للحل، لا مجرد وسيط.
وفي الختام، أعادت الجلسة تقديم الحرب أمام المجتمع الدولي لا كصراع بين طرفين، بل كمعركة على مستقبل الدولة نفسها: هل تُدار بمنطق الشرعية الدستورية أم بمنطق الجماعات المسلحة؟ وبينما قدم رئيس الوزراء خطة متقدمة لإعادة تعريف شروط السلام، فإن ترجمتها على الأرض ستظل مرتبطة بإرادة الميدان، واتجاهات القوى الكبرى، وقدرة الدولة على فرض شروطها على منطق الحرب ومنطق التفاوض في آن واحد وفقا لمصادر المحقق الإخبارية.
