أنقرة تختبر الدولة لا الحرب .. ماذا يعني أن يذهب السودان إلى تركيا الآن؟

مهند عوض محمود – اليوم التالي

لم تأتِ زيارة رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى تركيا بوصفها محطة بروتوكولية ضمن حركة خارجية نشطة، ولا يمكن قراءتها كرسالة مجاملة سياسية في لحظة اشتعال داخلي. هذه الزيارة تحديداً تحمل معنى مختلفاً، لأنها تتصل بكيف ترى أنقرة طبيعة الدولة السودانية ذاتها، لا بكيف تقيّم موازين القتال بين الجيش والمليشيا الإرهابية. فتركيا، بخلاف كثير من العواصم، لا تفتح خطوطاً استراتيجية مع دول تعتقد أن مركزها انهار أو أن مرجعيتها لم تعد قائمة.

طريقة تعامل تركيا مع أزمات إقليمية خلال السنوات الماضية تفسّر كثيراً من دلالات هذه الزيارة ؛ ففي سوريا ورغم الخلاف العميق مع النظام، لم تعترف أنقرة بأي كيان انفصالي، ولم تعمل على تفكيك الدولة أو شرعنة بدائل لها، بل أبقت كل تحركاتها ضمن مفهوم الدولة الواحدة وحدودها المعترف بها. وفي ليبيا تجاهلت تركيا قوى امتلكت تقدماً ميدانياً واسعاً لأنها رأت أنها تقوم على تشكيلات مسلحة خارج منطق الدولة، واختارت التعامل حصراً مع الحكومة المعترف بها دولياً، رغم ضعفها، لأنها تمثل الإطار الدولي القابل للتحول إلى شريك. وفي الصومال، لم تبدأ من بوابة السلاح ولا من دعم مجموعات محلية مسلحة، بل من بناء الموانئ والمطارات والمؤسسات، لأنها رأت دولة يمكن إعادة بنائها لا فوضى تُدار على المدى الطويل.

إسقاط هذا النموذج على السودان يقود إلى استنتاج واضح: ذهاب البرهان إلى أنقرة يعني أن تركيا لا تقرأ السودان كدولة منهارة، ولا ترى أن الحرب ألغت مركز القرار، ولا تعتبر أن المليشيا الإرهابية يمكن أن تكون بديلاً سياسياً أو شريكاً مستقبلياً. أنقرة لا تراهن على المليشيات، ولا تستثمر في سلطات موازية، ولا تبني نفوذها عبر إطالة الفوضى. لذلك فإن مجرد فتح هذا المسار في هذا التوقيت يحمل دلالة سياسية أثقل من أي بيان رسمي.

الأهمية الحقيقية للزيارة لا تكمن فيما أُعلن عنه ، بل فيما لم يُعلن. فتركيا ليست عاصمة وساطات إعلامية، ولا دولة تسبق أفعالها بالتصريحات. من غير المرجح أن يكون النقاش قد دار حول دعم عسكري مباشر، أو حول ترتيبات انتقال سياسي مفروضة من الخارج، أو حول وساطة بين الجيش والمليشيا الإرهابية. هذه الملفات تُدار عادة في ساحات أخرى. ما يهم أنقرة قبل أي التزام هو سؤال الدولة: هل لا يزال القرار مركزياً؟ هل ما زالت المؤسسات قائمة وقابلة للعمل؟ وهل هناك أفق حقيقي لمرحلة ما بعد الحرب؟

بهذا المعنى، تبدو الزيارة أقرب إلى اختبار سياسي عالي المستوى منه إلى صفقة جاهزة. اختبار لمدى قدرة الدولة السودانية على الصمود، وعلى الانتقال لاحقاً من إدارة الحرب إلى إعادة بناء المؤسسات. وهذا ما يجعل الزيارة مقلقة للمعسكر الآخر أكثر من غيرها، لأنها تضرب في صميم السردية التي بُنيت على أن السودان تفكك أو أصبح بلا مركز، أو أن المليشيا الإرهابية يمكن أن يُعاد تدويرها سياسياً تحت أي مسمى.

كذلك، فإن دخول أنقرة على الخط، ولو في هذه المرحلة سياسياً فقط، يكسر منطق الاحتكار. وجود تركيا كخيار مفتوح يعني أن السودان لم يعد محصوراً في مسار واحد أو تحت ضغط جهة واحدة، وأن أي ترتيبات قادمة لن تُصاغ بلغة واحدة ولا وفق رؤية أحادية. وتركيا، بما تملكه من قدرة على الانتقال من السياسة إلى الاقتصاد ومن الحوار إلى التنفيذ، لا تُقرأ كضيف عابر، بل كفاعل محتمل في لحظة إعادة البناء حين تتوفر شروطها.

ما تخشاه الأطراف المتضررة فعلياً هو أن تتحول هذه الزيارة من حدث إلى مسار، ومن مسار إلى واقع سياسي جديد، يُعاد فيه تعريف السودان خارجياً بوصفه دولة تقاتل للحفاظ على وحدتها في مواجهة مليشيا إرهابية، لا أزمة مفتوحة بلا أفق. لأن ذلك يرفع كلفة الرهان على التفكيك، ويُضعف قيمة المشاريع التي قامت على إضعاف المركز وخلق واقع تفاوضي دائم.

حتى إن لم تُعلن تفاصيل ما جرى في أنقرة، فإن المعنى أوضح من البيانات. فالدول لا تُقاس بما تقول، بل بالأبواب التي تختار فتحها في التوقيتات الحرجة. وتركيا لا تفتح هذا الباب إلا حين ترى دولة قابلة للحياة. بهذا المعنى، لم تكن زيارة أنقرة سؤالاً عن الحرب فقط، بل كانت سؤالاً عن الدولة. والسودان، بمجرد طرقه هذا الباب، قال الكثير… حتى من دون أن يتكلم وفقا لمصادر المحقق الإخبارية.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب