مهند عوض محمود – اليوم التالي
الرفض الذي أعلنته مقديشو لأي خطوة باتجاه الاعتراف بـأرض الصومال لم يكن موقفًا سياسيًا عابرًا، ولا بيانًا دفاعيًا تقليديًا، بل جاء تعبيرًا عن إدراك واضح بأن هذا الملف لم يعد شأنًا صوماليًا داخليًا، وإنما مسألة تمسّ توازنات القرن الأفريقي بأكمله ؛ ففي هذا الإقليم لا يمكن التعامل مع قضايا السيادة والانفصال بوصفها ملفات ثنائية، لأن آثارها تتجاوز حدود الدولة المعنية بسرعة وتنعكس على محيط إقليمي شديد الحساسية.
مقديشو، حين أعلنت رفضها، لم تكن تخاطب هرجيسا وحدها، بل كانت ترسل رسالة إلى جميع الأطراف الإقليمية والدولية مفادها أن أي تغيير في وضع السيادة داخل القرن الأفريقي ستكون له نتائج تتعدى أصحابه، وتنعكس على استقرار إقليم يعاني أصلًا من هشاشة سياسية وحدودية. ولهذا جاء الموقف حاسمًا في لغته، ومسنودًا بإطار أفريقي وإقليمي أوسع
التحركات المنسوبة إلى إسرائيل تجاه أرض الصومال لا ينبغي فهمها من زاوية الاعتراف القانوني وحده ؛ فإن الاعتراف نادرًا ما يكون بداية المسار، وغالبًا ما يأتي بعد اختبار البيئة السياسية، وحدود القبول الإقليمي، وردود الفعل المتوقعة. السؤال الأساسي هنا ليس: هل الاعتراف قانوني؟ بل: ما الذي يدفع طرفًا خارجيًا للاهتمام بأرض الصومال في هذا التوقيت، وما الذي قد يترتب على ذلك في بيئة إقليمية لا تحتمل قرارات يصعب التراجع عنها؟
السبب الأول واضح ولا يحتاج إلى تأويل: الجغرافيا ؛ فإن أرض الصومال تطل على خليج عدن، وعلى مسافة قريبة من باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية في العالم ؛ هذه القيمة الجغرافية قائمة بذاتها، ولا تتأثر بوضع الإقليم القانوني. لهذا، تعاملت دول عديدة عبر التاريخ مع مناطق وكيانات غير معترف بها رسميًا عندما فرض الموقع نفسه، وكان الهدف ضمان الوصول، ومتابعة التحولات، وبناء علاقات عملية في نقاط عبور حيوية للتجارة والأمن.
السبب الثاني يتعلق بطبيعة التعامل مع الكيانات المستقرة بحكم الواقع. العلاقات الدولية تفرّق بوضوح بين الاعتراف بدولة مستقلة وبين إقامة علاقات عملية غير سيادية. تجربة شمال قبرص مثال واضح على ذلك ؛ هذا الكيان لم يحظَ منذ إعلانه عام 1983 إلا باعتراف دولة واحدة هي تركيا، ومع ذلك لم يُعزل عن العالم ؛ فقد جرت معه تعاملات اقتصادية وتعليمية وسياحية بصيغ غير رسمية، واضطر الاتحاد الأوروبي إلى التكيف مع واقع الانقسام، رغم اعترافه الرسمي بقبرص الموحدة فقط. ومع ذلك، لم يتحول هذا التعامل إلى شرعية سياسية، لأن الاعتراف ظل خطًا أحمر لم تسمح التوازنات الإقليمية والدولية بتجاوزه.
المنطق نفسه ظهر في كوسوفو، حيث سبق التعامل العملي الاعتراف السياسي بسنوات، وظهر أيضًا في إقليم كردستان العراق، الذي نسج علاقات دولية واقتصادية واسعة دون أن يُترجم ذلك إلى قبول دولي بالانفصال. وعندما حاول الإقليم تجاوز سقف الحكم الذاتي عام 2017، جاء الرفض الإقليمي والدولي سريعًا وحاسمًا. هذه السوابق تؤكد قاعدة مستقرة: التعامل مع الواقع ممكن، لكن تحويله إلى دولة معترف بها يتطلب توافقًا إقليميًا واسعًا، لا مجرد قرار أحادي.
من هنا يمكن فهم تشدد موقف مقديشو، وانسجامه مع توجهات الاتحاد الأفريقي ومع إيغاد. فالقرن الأفريقي إقليم لم يُغلق ملفاته الحساسة بعد. في الصومال نفسه، لا يزال النقاش قائمًا حول شكل الدولة والعلاقة بين المركز والأقاليم. في إثيوبيا، ما زالت آثار الصراع في تيغراي حاضرة، إلى جانب توترات قومية في إقليم أوروميا وأقاليم أخرى، تجعل أي سابقة انفصالية ناجحة في الجوار مصدر قلق مباشر.
في جيبوتي، تبدو الحساسية تجاه أي مسار يُفهم على أنه تشجيع لإعادة تعريف السيادة نابعة من اعتبارات تاريخية وجغرافية دقيقة. الدولة الصغيرة قامت على توازن داخلي هش بين مكوّنين رئيسيين، وتجاور حدودًا شديدة الحساسية مع إريتريا وإثيوبيا، وشهدت في السابق توترات حدودية مع إريتريا في منطقة رأس دميرة. ورغم أن جيبوتي تُعد اليوم من أكثر دول الإقليم استقرارًا سياسيًا، فإن هذا الاستقرار قائم إلى حد كبير على تجنّب فتح أي نقاشات إقليمية حول الانفصال أو تغيير الحدود. من هذا المنطلق، تنظر جيبوتي بقلق إلى أي سابقة اعتراف أحادي في محيطها، ليس خوفًا من انفصال داخلي وشيك، بل خشية أن يؤدي ذلك إلى إعادة تسييس ملفات حدودية قديمة، أو إلى إدخال الإقليم في سباق نفوذ جديد يهدد موقعها الحساس عند مدخل البحر الأحمر.
أما كينيا، فحساسيتها مختلفة في الشكل لكنها متشابهة في الجوهر. الدولة لا تواجه اليوم حركة انفصالية نشطة، لكنها تحمل في ذاكرتها السياسية إرثًا ثقيلًا من ملف “الإقليم الشمالي الشرقي”، الذي شهد في ستينيات القرن الماضي تمردًا مسلحًا مرتبطًا بمطالبات بالانضمام إلى الصومال. ورغم أن هذا الملف أُغلق رسميًا منذ عقود، فإن نيروبي ظلت حذرة تاريخيًا من أي تطورات صومالية قد تُعيد إحياء نقاشات الهوية والسيادة في مناطقها الحدودية. إضافة إلى ذلك، فإن كينيا معنية مباشرة باستقرار الصومال لأسباب أمنية واقتصادية، وتخشى أن يؤدي الاعتراف بأرض الصومال إلى تعقيد المشهد الصومالي أكثر، وإضعاف الدولة المركزية، بما ينعكس سلبًا على أمن حدودها الطويلة مع الصومال وعلى بيئتها الأمنية الداخلية.
في هذا السياق، يصبح الاعتراف الأحادي خطوة عالية الحساسية. المخاطر المباشرة تبدأ من الداخل الصومالي. مجرد طرح الاعتراف من طرف خارجي يغيّر سلوك الفاعلين المحليين: أطراف ترى في الاعتراف الخارجي دعمًا سياسيًا يجعلها أقل استعدادًا للدخول في تسويات داخلية ؛ وأخرى تعتبره تهديدًا وجوديًا يستدعي التشدد. هذا التحول يرفع منسوب الاستقطاب، ويُضعف فرص التفاهم الداخلي، ويستنزف طاقة الدولة المركزية في صراع سياسي بدل توجيهها لمعالجة ملفات الأمن وبناء المؤسسات.
في الوقت نفسه، يمتد الأثر إلى الإقليم عبر زيادة التوتر غير المعلن في خليج عدن وباب المندب. دخول لاعب جديد رسميًا إلى هذه العقدة البحرية لا يعني بالضرورة مواجهة عسكرية، لكنه يدفع الدول الأخرى إلى إعادة حساباتها عبر سياسات موازنة هادئة، مثل توسيع الشراكات، أو تعزيز الحضور اللوجستي، أو تكثيف المتابعة البحرية. هذه التحركات لا تُعلن عادة، لكنها تُراكم توترًا يجعل الإقليم أكثر حساسية لأي تطور لاحق.
أما المخاطر غير المباشرة، فهي أبطأ ظهورًا لكنها أعمق أثرًا. أولها إضعاف الالتزام بفكرة الحدود والسيادة في قارة شديدة الحساسية تجاه سوابق الانفصال. أي حالة يُنظر إليها باعتبارها نجحت في انتزاع اعتراف خارجي تتحول إلى مرجع سياسي في نقاشات أخرى، حتى لو لم تتكرر عمليًا. ثانيها نقل مركز الثقل من التسويات الداخلية إلى الرهان على الخارج، ما يحوّل نزاعات قابلة للاحتواء إلى ملفات تجاذب إقليمي ودولي معقّدة.
في هذا الإطار، تكتسب سابقة نزاع جزر حنيش بين اليمن وإريتريا أهمية خاصة إذا قُرئت بدقة. النزاع الذي شمل حنيش الكبرى وحنيش الصغرى وزُقَر وصل إلى مواجهة عسكرية عام 1995، ثم أُغلق عبر التحكيم الدولي بحكم صدر عام 1998. أهمية هذه السابقة لا تكمن في الجزر نفسها، بل في المبدأ الذي ثُبّت: النزاعات السيادية في البحر الأحمر يمكن احتواؤها قانونيًا ومنع تحولها إلى صراع إقليمي مفتوح. هذا المسار مثّل بديلًا عن فرض الأمر الواقع، وأسهم في حماية استقرار ممر بحري بالغ الحساسية.
الخلاصة أن ملف أرض الصومال لم يعد نقاشًا قانونيًا حول الاعتراف من عدمه، بل أصبح اختبارًا عمليًا لكيفية إدارة التوازنات في القرن الأفريقي. الخطوة قد تكون محسوبة من زاوية أصحابها، لكنها عالية الكلفة في إقليم لا يحتمل قرارات يصعب التراجع عنها. الرفض الصادر من مقديشو أعاد تثبيت حقيقة أساسية: في هذه المنطقة، أي قرار سياسي لا يُقاس بلحظة اتخاذه، بل بما يفرضه لاحقًا من تفاعلات قد تمتد آثارها إلى استقرار دول بأكملها وفقا لمصادر وكالة المحقق الإخبارية.
