التسوية السياسية بين تعقيدات المشهد السياسي وفشل النموذج السابق..
هكذا قال لي أحد الدبلوماسيين الغربيين، تعليقاً على مشروع الدستور المسمى بدستور (تسييرية نقابة المحامين)، ارتفع حاجب الدهشة عندي عندما سمعته يقول هكذا، وأكيد عرفت أن حد معرفته بالسودان هي حوائط مكتبه والتقارير (المخجوجة) المنحازة التي يسمعها، استمعت إليه، وأذكر مداخلة الأستاذ القانوني نبيل أديب حول المشروع، ورأي الأستاذ يحيى الحسين.
يضع بعض الدبلوماسيين الغربيين أنفسهم في مقام أكبر من حجمهم، بل يعتقد البعض أنه وصي، بل ويتصرف كأنه حاكم عام للبلاد، وهم الذين يعتقدون أيضاً أنهم بإمكانهم صنع أي شيء حتى الخيارات نفسها يستطيعون صناعتها لنا، ولهم قناعة (لا أدرى مصدرها) أنهم سيجبرون الناس على تقبلها !!.
ولمن لا يعلم حجم التعقيد السياسي الآن؛ دعنا نذكره عسى ولعل له أن يخرج من النظرة السطحية قليلاً، ولنتحدث فقط عن الأطراف دون النظر إلى ما سيحملونه من مشروعات وتصورات حول الانتقال.
الأطراف :
في جانب المشهد السياسي نجد من أطلق عليهم بالمدنيين عقب التسوية السياسية مع المكون العسكري في أغسطس 2019م، وهي قوى الحرية والتغيير بفصائلها ( التوافق الوطني – المجلس المركزي – القوى الوطنية – تجمع القوى المدنية) وكذلك قوى التغيير الجذري وقوى الكفاح المسلح غير الموقعة على اتفاقية جوبا، لكل هذه القوى رؤية مختلفة عن الانتقال، وتكاد تكون متناقضة في حد ذاتها فيما بينها، وهي كانت موحدة قبل عامين حول مشروع الحكم بعد إسقاط نظام الإنقاذ.
أيضاً هنالك قوى سياسية اجتماعية جديدة دخلت المشهد، ولها تأثير غير منكور تمثل أبرزها قوى نداء أهل السودان بقيادة الشيخ الطيب الجد، طرحت هذه القوى مبادرة جديدة جمعت أغلب القوى الاجتماعية والسياسية بينها، التي كانت ضمن حكومة البشير، لايمكن النكران أن لهذه القوى نفوذاً وتأثيراً حتى داخل القوات المسلحة، حيث رأى بعض من فيها أن ما يطرحونه يعتبر موقفاً يجب استصحابه ضمن المطروح، وأن المحاولة للتقليل أو إلغاء وجود هذه القوى وضع غير واقعي وقصير النظر.
النظام السابق.. كقوى كانت حاكمة يطل هو الآخر بكياناته وواجهاته المختلفة، بينها أكبر حدث اليوم هو حضور رئيس الوزراء الأسبق محمد طاهر إيلا، والتي يمكن أن تربك المشهد للجميع، خاصة عندما ترى أن هنالك تسوية سياسية تجري لعزلها أو استعدائها كما حدثت التسوية السابقة التي تجاوز فيها القانون والأعراف من الذين حاولوا تصفية تمكين النظام السابق، فكانت تصفية التمكين فادحة أكثر من التمكين نفسه، ولا يمكن أن ينكر أحد أنه أعجبهم الخلاف الذي حدث في التحالف (المدني العسكري) الذي أنهى نظامهم، وأدى الخلاف بينهم إلى إسقاط الحكومة التي قامت بعدهم، وكان الانتقام والتشفي والتنكيل عنوانها عليهم.
المكون العسكري عرف مفهوماً هي القوات المسلحة والدعم السريع توحدت قيادتها عند اعتصام القيادة عبر اللجنة الأمنية، واستطاعت تسديد الضربة الأخيرة للنظام، وحالياً هي نفسها تتباين في النظرة للانتقال؛ خاصة بعد تجربة الشراكة التي أنهتها هي نفسها بقرارات ال25 من اكتوبر 2021م، لايمكن أن توحدها أي تسوية قادمة قائمة على نفس قوائم التسوية السابقة، لأن المشهد ليس هو 2019م حتى أعضاء النظام السابق صاروا أكثر ثقة من أي وقت مضى، واستعداداً، يرجع ذلك لعملية التفكيك التي تمت بواسطة المجلس المركزي للقوى المدنية الثورية، بالاستفراد بالسلطة وتخوين الآخرين، حيث إن وحدتها كان شرط سقوط النظام السابق، وانحياز العسكريين إليهم، فبالتباين والخلافات الحادة التي شق صفها جعل حتى العسكريين لا يضعون لها اعتباراً .
التدخل الخارجي، وهو الحلقة التي يجهل بعضها تعقيدات المشهد، وتعتقد أنها يمكن أن تضغط او بانحيازها على أحد الأطراف أن تصنع مشهداً جديداً موالياً لها، ويسعى بعضهم لجعل أرضنا ميدان معركة تصفية حسابات دولية، يستطيعون فيها تسديد ضربات لخصومهم، فشلوا فيها في مكان آخر، هذه القوى الدولية لم تكن جزءاً من صناعة وانتصار ثورة ديسمبر، ففي ديسمبر 2018م، ولا مصلحتهم في التغيير متطابقة معنا، ففي أديس أبابا كان القائم بالأعمال الأمريكي يسخر من حديثنا له بإسقاط نظام البشير، بل كان يراه من سابع المستحيلات إلى أن رأيته يفترش مصلايته في ساحة الاعتصام في أبريل، هذا يدل على ضعف التحليل الداخلي عندهم وشح المعلومات والانحيازات المعرفية لميولهم عكس الواقع.
التسوية الميتة قبل الميلاد:
هي التسوية السرية التي يسعون لتقديمها حالياً بفعل الرباعية، والتي يخططون لها أن تخرج باسم الثلاثية والتي يخشون الإعلان عنها للرأي العام، نتساءل.. كيف للتسوية السرية الخائفة أن تصمد وتعالج الأزمة السياسة العلنية الظاهرة بهؤلاء الأطراف؟ فالمشكلة يا (المجتمع الدولي) ليست في السرية أو الإعلان، وإنما المشكلة في الطبيعة والأطراف والطريقة المتبعة، وما تتبعونه تعتقدون أنه يمكن أن يكون مخرجاً، فقد جربت هذه الوصفة للتغيير من قبل ولم تنجح، بل لم تصمد لعامين، فلا العسكريين – بشقيهم – لديهم زمام المبادرة أو مركزي الحرية والتغيير أو حتى التوافق الوطني لوحده.
لذلك، نرى أن المخرج الوحيد من الأزمة نقولها بكل وضوح.. هي مصالحة تاريخية ووطنية شاملة لا تقصي طرفاً، وحتى مستقبل النظام السابق يجب أن تشمله هذه التسوية كأفراد وكمشروع، درءاً للانتقام وتطبيباً للجراح، نحن نعيش في مرحلة لا تقبل الإقصاء بأي شكل وأي لون، وحتى تجارب مفوضيات الحقيقة والمصالحة والعدالة الانتقالية عموماً؛ إذا بحثناها نجدها تمت بمشاركة حتى الجناة في الأنظمة التي سقطت، غير هذا الوضع فسوف يكون هو الذهاب على خطى الخطأ القديم، والذي لم ولن ينتج جديداً.
بعد إجراء المصالحة الوطنية ستكون الأوضاع مهيئة لأن تذهب القوى السياسية إلى الانتخابات مباشرة، ويذهب العسكر إلى الثكنات، ولا يجب أن يكون هنالك حديث عن حكم للسياسيين في الانتقال، اعتباراً مما مضى.
فالتسوية التي يعتريها الخوف والطمع وتضمر الانتقام والتشفي والتنكيل سوف يلاقيها الحمق والطيش وستؤدي ببلادنا إلى المهالك.
الأول من أكتوبر 2022م