السودان.. واقع التعليم المؤلم

*
النذير إبراهيم العاقب
*
(قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولاً
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي
يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ
عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى
أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ
وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا
وَطَبَعتَهُ بِيَدِ المُعَلِّمِ تارَةً
صَدِئَ الحَديدُ وَتارَةً مَصقولا).
وهكذا هو المعلم الذي عرفناه، الشعلة التي تنير الدروب، كيف لا وهو النعمة التي تُسبغ على الناس كافة، فيحاول جهده أن يخرجهم من ظلمة الجهل وعماه إلى نور المعرفة وقوته.
والمتابع لمسار التعليم العام في السودان يلحظ بجلاء إنهياره التام عقب شروع الحكومة البائدة في تغيير مفاهيمه وأساسياته، والقضاء التام على معاهد إعداد المعلمين، وإستبدالها بكليات التربية، والتي خرجت أجيالا من المعلمين لا يمتون للتعليم بصلة، ناهيك عن وضع المعلم في آخر قائمة إهتمامات الحكومة، وأضعف المرتبات في الدولة مرتب المعلم، عكس معاهد إعداد المعلمين التي
أخرجت أجيالا من المعلمين غاية في الأدب والحنكة والحكمة والرأي السديد، وذاك حينما كان المعلم شامخاً في إباء، ويتمتع بكامل حقوقه المشروعة، مادية كانت أو أدبية، ومكانته سامية في المجتمع، وأنه وبفضل تعليمه إستطاع أن يُخرج الناس من ظلام الجهل والأمية، إلى النور نور المعرفة والهداية.
ولعل مقولة الزعيم نلسون مانديلا الخالدة (إنّ تدمير أي أمة لا يحتاج إلى قنابل نووية أو صواريخ بعيدة المدى، ولكن يحتاج إلى تخفيض نوعية التعليم والسماح للطلبة بالغش،
فيموت المرضى على يد أطباء نجحوا بالغش،
وتنهار البيوت على يد مهندسين نجحوا بالغش،
وتُفقد الأموال على يد اقتصاديين ومحاسبين نجحوا بالغش، وتموت الإنسانية على يد علماء دين نجحوا بالغش، ويضيع العدل على يد قضاة نجحوا بالغش).
تلك المقولة يجب أن تكون ديدن كل الحكومات في كل دول العالم، وخاصة عندنا في السودان، ويجب أن تفضي بالحكومة ووزارة التربية والتعليم إعادة النظر في أوضاع التعليم كافة، ومراجعة أساسياته ومناهجه، والعودة به إلى جادة الطريق القويم، والتي تبدأ بإعادة النظر في وضع المعلم ومعاشه وراتبه الذي من المفترض أن يكون الأعلى في ميزانية الدولة، من منطلق إن لم يكن هناك معلم، لما كان هناك طبيب أو مهندس أو وزير أو رئيس جمهورية.
وذلك من منطلق الأهمية الجذريّة للتعليم، والمبنية على تأسيس المجتمعات وبناء ثقافاتها وتطوير علاقاتها بين الأفراد وبين الجماعات على حدّ سواء، حيث يعدّ التعليم أهم وسائل التنمية الإنسانية، بحكم تأمينه للمتعلّمين فرص تحسين الواقع، ولا سيما الجوانب الصحية والنفسية، فمن الممكن أن يؤثر الوعي التعليمي على نمط إستخدام الإنسان للغذاء، فضلاً عن تأثير التعليم على نمط إستخدامه للوقت وتنظيمه، كما أنه يؤدي دوراً مهماً في منح الثقة بالنفس، مما ينعكس بشكل إيجابيّ على الحياة بشكل عام.
أما أهمية التعليم على الصعيد الإجتماعي فتتمثل في أنه يعمل على تأسيس الأبعاد الجذرية للموازنة الفكرية والقيمية والوجدانية في المجتمعات، وبالتالي فإن التعليم يشكل النواة الأولى واللبنة الأساسية للسلام الإجتماعي، ويكون صلة وصل قويّة بين جميع أفراد المجتمع على إختلاف أعمارهم ومستوياتهم الفكرية، وهذا ما ينعكس إيجاباً على مقوّمات الوحدة الوطنية التي تدعم كيان المجتمع وإستمراره وتطوّره نحو الأفضل، وذلك أيضًا ما يجعل أفراد المجتمع على قدر من المسؤولية الوطنية والإنتماء الإيجابي للمكان الذي يعيشون فيه، لكي يتمكنوا من جني ثمار ذلك التكافل الإجتماعي على كافة الأصعدة.
وإن ذلك البُعد الإجتماعي للتعليم، بالإضافة إلى القوى الثقافية المجتمعية نجدها تُشكّل المحور الأساسي للتنمية في كافة مجالاتها، فالتعليم هو الفرصة الجوهرية بالنسبة لكل فرد للتنمية البشرية المتنامية، والعمل على تطوير وإنضاج القدرات والطاقات المختلفة لكل فرد من الأفراد بطرق مدروسة ومنظّمة وأكاديمية، وذلك ما يجعل من عملية التعليم عملية ذات قداسة في البُعد الإجتماعي بالدرجة الأولى. وفيما يتعلق بأهمية التعليم على الصعيد السياسي ودور السياسة في تنمية التعليم وتطويره، فالوزارات المسؤولة عن التعليم في كل بلد من البلاد تقوم بالتأثير على مستوى التحصيل العلمي في تلك البلاد وطريقة التغذية التعليمية فيها، والأساليب اللازمة لبث تلك التغذية والتدرّج بمستوياتها من الصفر إلى المراحل العليا، وتساهم في تفعيل الدور القومي للتعليم وتوسيع دائرة التطوير العلمي الوطني، وبالتالي رفد الوطن بالأفراد المساهمة في الوظائف التعليمية وتطوير مستوياته الثقافية والإقتصادية، وتحسين مستوى البلد مقارنةً بالبلدان الأخرى، من خلال الدعم العلمي بالوسائل اللازمة وتأمين المتطلبات الضرورية للنهوض بالحركة التعليمية المستمرة.
كما يمكن القول بأنّ هناك رابطة قويّة بين إرتفاع المستوى التعليمي في بلد معين وبين تمكُّن الأفراد من الديمقراطية التي تُتيح لهم التصرف الأمثل بالموارد العلمية، كالإستثمار وتأسيس المشاريع التجارية والمشاركة في ميادين عالمية، وإستخدام الصلاحيات المتعددة.
وعلى المستوى الاقتصادي كيف يُمكن للتعليم أن يتحكم باقتصاد البلاد، والنهوض بالمستوى الاقتصادي للمجتمع من خلال تطوير مهارات الأفراد وتمكينهم من الإستفادة من وظائف ذات مردود جيد، كما أن التطور الإقتصادي الذي يسعى التعليم إلى الإستفادة منه في المجتمعات والذي يُمكّن المتعلمين من إستخدام الأدوات الحديثة والمتطورة في ميدان البحث العلمي، وهذا ما يجعل العلم يمشي في درب من التقدم والسموّ، ويرتقي إلى مراتب لا نهائية الميادين المختلفة، مما يجعل إمكانية الاختراع والإبتكار متاحة بشكل أكبر لدى الأفراد، وبالتالي تعود الدائرة إلى تطوير الاقتصاد لدى ذلك المجتمع نفسه.
ومن ماسبق تتضح الأهمية القصوى للتعليم وإسهامه المباشر في زيادة الإنتاجية وزيادة اليد العاملة التي تتمتع بالخبرة والدراية المتخصصة بالعمل الذي تقوم به، مما يُتيح لكل فرد من الأفراد أن يكون في مكانه العملي المناسب، وهذا ما يعطي فرصة للاقتصاد بأن يزدهر بزيادة الدخل القومي وتحقيق التنمية الإقتصادية على الصعيد المجتمعي، فضلاً عن إزدهار حياة كل فرد من الأفراد وتمتّعه بالرخاء المعيشي. الأمر الذي يتطلب من وزارة التربية والتعليم الاتحادية الشروع الفوري في متابعة التعليم ومستويات، والسعي لتُحسين برامج التعليم بكل مجالاته وتخصصاته، والعمل على إعداد المزيد من الموارد البشرية المتدربة وفق المجال التكنولوجي، والقادرة على ربط التكنولوجيا بالإحتياجات التنموية والإستفادة منها في تقديم الإنتاج الأفضل. أما فيما يختص بأهمية التعليم على المستوى الثقافي، وهل الثقافة وليدة التعليم في محورها الأول، فلاشك أن التنشئة الإجتماعية والتعليمية في مستواها الثقافي ترتكز على بناء المحاور الثقافية لدى الفرد منذ نشأتهِ وطفولته، حيث تقوم المؤسسات التعليمية برسم نمط محدد من أنماط السلوك لهذا الطفل يُطابقُ ثقافته المجتمعية السائدة، وتؤطّر الممارسات التابعة لذلك السلوك بالثقافة المجتمعية التي ينبغي أن تتحرك تصرفات الفرد خلالها من واجب أو غير واجب، مما يؤدي إلى توافق الفرد مع مجتمعه وبناء نظام القيم المتوارثة في ذاته، ويؤدي ذلك مع تقييمه الشخصي وتعامله الذاتي مع تلك القيم والمواقف إلى تكوين شخصيّته المتميزة عن غيرها بصفات محددة، وتحديد ميوله ورغباته والسير في الإتجاه المناسب لتلك الرغبات وفق مُعطياته الثقافية. ممّا تقدم يتبيّن أنّ المستوى الثقافي يتداخل بشكل كبير مع المستوى الإجتماعي ويشكل جزءاً منه، وذلك لأنّ التعليم يعمل على كافة الأصعدة، وتكوين مجتمع يقوم بشكل أساسي على نمط ثقافي متين ويعتمد عليه الأفراد لعدة أجيال متعاقبة، وحتى إن أحدثَ جيل بعد جيل بعض التغييرات عبر الزمن، يدخل التعليم في صميم حياة الأفراد والمجتمعات فيبنيها من كافة الجوانب، ويسهم في حماية أفرادها من ظلمة الجهل المؤدّية إلى الموت الفكري والثقافي، الأمر الذي يحتم على الجهات المعنية بالتعليم في السودان إعادة النظر في سياساتها التعليمية الراهنة، والسعي بكل السبل الكفيلة بإعادة مجد التعليم العام في البلاد، بدءاً، وكما أسلفنا، بزيادة راتب المعلم حتى يكون أعلى راتب في الدولة، من منطلق إستحقاقه لهذا الحق، حيث أنه لولا المعلم لما كنا نحن، ولولا المعلم لعاش الكون كله في جهل مدقع، الأمر الذي يوجب إعطاء المعلم حقه المادي والقيمي وإحترامه وتقديره حتى نضمن أجيالا أكثر رقيا وحضارة وتعلما، ناهيك عن الضرورة القصوى في مسألة إعادة معاهد إعداد المعلمين والمعلمات، مثال معاهد طيبة والحصاحيصا وشندي وبخت الرضا، والتي خرجت آلاف المعلمين الأكفاء، وللأسف لحظة توقفها عن العمل بدأ الإنهيار الكامل في التعليم في السودان، الأمر الذي يوجب ضرورة إعادتها من جديد لضمان تأهيل وتدريب الكوادر التعليمية بأعلى وأكفأ مستويات التدريب والتأهيل الأكاديمي، وإعادة النظر في تغيير المنهج التعليمي للمرحلة الإبتدائية بالتحديد، وخاصة منهج الصف الأول الابتدائي، وإعادته من، (أ، ب، ت، ث)، وإعادة مناهج الخمسينيات وحتى السبعينيات، والتي خرجت أجيالا غاية في الأدب والإحترام والوعي، حينها نضمن للتعليم العودة إلى جادة الطريق القويم في السودان.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب