الشاعر أسامة سليمان لـ(اليوم التالي): تهزمني القصيدة عندما أفرغ وأجدها تحاول محو اسمي والجلوس مكاني..

 

لا أميل إلى هذه الجدران الشاهقة التي نقيمها بين المدارس الشعرية..

قصيدة النثر فتحت الباب أمام كل من أراد الكتابة..

من جيل يؤمن بالابتكار الصوري في الشعر، وهو شاعر ينبئ بأن يكون شاعراً مهماً في الساحة لأنه يكتب بطريقة مذهلة يتخذ معه هذا الحوار نمطاً غير تقليدي فأجوبته لا تؤدي إلى نهايات معروفةـ بل إلى إجابات تقودك لأسئلة أخرى جديدةـ وهذا دليل على شاعر مبدع يمتلك براعة الكشف عن مكنونات ذاته، ففي الحديث معه يمتزج الشعر بالفلسفة والفكر بالأدب، وهذا لأنه شاعر أثبت رسوخ تجربته في المشهد الشعري، عبر مجاميع شعرية منذ ديوانه (اجتراح الكتابة) و(صحراء الورقة) و(في شارع من دون لافتة)..

اليوم التالي: محمد إسماعيل

كيف جاء أسامة إلى الشعر، ما هي السياقات الذاتية والمعرفية والتاريخية التي واكبتها كشاعر؟

أجئتُ إلى الشعر؟ أم هو الذي جاء إلي؟ وهل كل كنت أملك خياراً ألا أجئ ؟ هذه الأسئلة لا أعرف لها إجابات، أعرف أنني وجدت نفسي في عالم الشعر طفلاً، كأن أحداً نسيني هناك، أقتات من عشبة الشعر السحرية – وليس لحسن الحظ هناك شجرة محرمة –  ومنذ طفولة الأشعار تلك وحتى الآن وأنا ألتقط من هنا وهناك، رفدت تجربتي روافد كثيرة، أنظر إلى داخلي فأجد أشخاصاً، وأزماناً وأمكنة..
أول قصيدة كتبتها متى.. وأول قصيدة نشرتها أين؟
أول قصيدة كتبتها ربما قبل أن أولد، وربما هي تلك الهمهمات العاطفية التي كنت أرددها في الثانوية، وربما بعض الأبيات التي وجدتها مكتملة وزناً وقافية في بدايات سنوات الجامعة، وأحياناً أقول لنفسي إنني لم أكتب بعد أول قصيدة وكل ما أقوم به الآن هو اختبار لأدواتي، أما أول قصيدة نشرتها فهي (حمى امرأة) تنتابني حمى امرأة / نظراتها قضبان سجان عنيد في الملف الذي كان يشرف عليه الأستاذ علي يس.
إلى أي مدرسة شعرية تميل في الكتابة؟
لا أميل إلى هذه التسميات، بل أرى أن لا داعي لهذه الجدران الشاهقة التي نقيمها بين المدارس الشعرية، وأخشى أحياناً سلطة التصنيفات.

ماذا يعني لك الشعر؟ ما الذي دفعك إلى كتابته.. وماذا يعني لك كونك شاعراً؟
الشعر يعني لي هذا العالم الجميل الموازي الذي أحياه، وهو ليس عالماً افتراضياً كما قد يتبادر إلى الذهن لكنه عالم حقيقي، وكلما ضاقت الدروب وجدتني أطرق أبوابه الذهبية، ويعني لي كوني شاعراً أن ثمة ما عليّ فعله، الشعراء جزء من هذا العالم ولهم عمل ودور، والدور الذي

دعني أكرر كلاماً قلته من قبل وهو أننا يجب ألا نحمل الشعر،  والشاعر فوق فوق طاقتهما، لذا أؤكد على الدور الجمالي ولا أنكر غيره.

ما رأيك بمصطلح شعراء الشباب؟
هذه تسمية مقلقة، ولا أدري إن كانت عمرية أم إبداعية، أحياناً أحس بأن هناك غرضاً وراء التسمية، غرض تبريري، وتحس أن البعض يريد حشر تجربة ما بين سنيّ العمر الضيقة، سؤال فقط: هل يمكن تصنيف طرفة بن العبد بمعلقته الشهيرة وموته عن ست وعشرين عاماً شاعراً شاباً..
البعض يرى أن لغة الشعر ما عادت صالحة لهذا الزمن؟
وقد يقول آخر إن هذا الزمان لم يعد صالحاً للشعر، ليس للشعر زمان؟ في اعتقادي- وأظن أن الشعر الحقيقي قادر على الخروج بنا من مشكلات وأزمات أصبحنا نحياها، وكثيرون يربطون عدداً من الأزمات والمشكلات الحياتية بهذا الزمان، وبعضهم يكاد يقول إن الإنسان لم يعد صالحاً لهذا الزمان، دعني أجيب بجدية أكثر – ولك أن تمحو الكلام السابق – ربما لم يعد الشعراء قادرين على إقامة جسور بينهم والمتلقي، مع وجود بدائل غير الشعر يلجأ إليها الناس لإرواء عطشهم الجمالي، فالموسيقى والمسرح والتشكيل والرواية والسينما وغيرها لم يكن موجوداً عندما كان الشعر هو الملجأ الأوحد للناس، الشعر لم يعد وحيداً في الساحة مثلما كان
ما هو الحلم الذي تحمله كشاعر؟
أحلم بهذا العالم الذي يقيم للشعر وزناً، بالدولة التي يفتح بابها للشعراء، والإيمان برؤيتهم الاستشرافية.
كثيراً ما نسمع عن الشاعر الملتزم ماذا يعني لك هذا؟
يذهب الذهن مباشرة إلى شعر القضية، دعنا نقول إن الالتزام بمعناه هذا رفد العطاء الإنساني بمد شعري هائل في فترات متفاوتة، وربما بدأ الالتزام في الانحسار مع انحسار موجات التحرر ضد الاستعمار، ولا أريد كذلك أن أقول ومع انهيار الاتحاد السوفييتي السابق على الرغم من أن شعراء اليسار كانوا رأس الرمح في ما يسمى بالشعر الملتزم، وعلى ضفة أخرى أليس هناك التزاماً حقيقياً لدى كل شاعر تجاه تجربته؟!!
ما الذي تعتقد أنك حققته في الشعر؟
في الشعر لا أظن أنني حققت شيئاً حتى الآن، أجد أنني أحاول كل يوم غرس نجمة جديدة في طريق تجربتي. لكن (من) الشعر أعتقد أنني حققت بعض الأشياء منها هؤلاء الذين يقرأون هذا الحوار الآن وغيرهم ممن وصلهم صوتي واستحسنوه.

وما هي أهم المؤثرات في تجربتك الشعرية؟
المؤثرات الحقيقية تتمثل في قراءاتي، القرآن والشعر القديم، والشعر الحديث، أستطيع أن أقول المتنبئ السياب، ودرويش، وما زلت أكتشف شعراء كباراً، ثم كل قصيدة لا أظنها عبرتني دون أن تترك أثراً.

يتوحد الشاعر مع قصيدته ومتى يختلف؟
لا أظن أن الشاعر يتوحد مع قصيدته بالمعنى التام للكلمة، الشاعر يعمل على قصيدته من الخارج بمعنى أنه فاعل بانٍ موجّه ولا مجال للتوحد في هذه الحالة، كذا لا معنى للاختلاف إذا اتفقنا على الفاعلية المحضة للشاعر، فالقصيدة تمثله وقد تتمثله لكنها لا تملك قدرة أن تخالفه.
متى يكون الحرف خائناً؟
القصيدة عمل منظم، ومعقد وقاصدم، وإذا توقفنا عند قول كعب بن زهير: (فمن للقوافي شأنها من يحوكها/ إذا ما ثوى كعب وفوز جرول)، نجد أن القصيدة أشبه بالحياكة، العمل هنا على لملمة، حياكة وتشذيب، بل وتدجين المعاني في سياق هذا العمل المضني لإبراز فكرة حتى وإن كانت إبداعية بحتة لا تنتمي إلا إلى عالمها الخاص- فإن أي إخفاق تشتم فيه رائحة خيانة، لكن بطلها يكون هو الشاعر الذي انساق وراء جماليات العمل وخان فكرته.

متى تهزمك القصيدة؟
تهزمني القصيدة كثيراً .. تهزمني حينما أتوسل إليها ولا تأتي وتستعصي الكتابة وتهزمني في لحظة الخلق حينما تفر في أودية الجماليات وأركض وراءها محاولاً إعادتها إلى حيز الفكرة القصيدة مولعة بالمغامرات والاستكشاف وبالغرابة قد تفر من بين يديك لأن نجماً لمع هناك في أفق ما..

وتهزمني القصيدة عندما أفرغ منها وأجدها تحاول محو اسمي والجلوس مكاني
أين تكمن لحظة جنونك الشعري؟
تكمن في قمة العقلانية التي يجب أن تستصحبها وأنت تصارع القصيدة هذا الكائن الشعري الجميل المتوحش وتحاول أن تلبسها ثوب العقل وتخرجها للناس شكلاً معقولاً يمكن التعامل معه.
شهدت السنوات الأخيرة تحولاً مفاجئاً لبعض الشعراء الشباب السودانيين إلى كتابة القصة والرواية كيف تفسر ذلك؟
هذا الأمر يمكن أن ننظر له من زوايا متعددة، سأحاول الدوران حوله الرواية بظلالها الطويلة وإمكانياتها الهائلة تغري البعض ممن يبحث عن فضاءات أوسع، حركة البحث عن فضاء أوسع هذه حالة يعيشها الشعراء دوماً منها عن العمودية إلى التفعيلة، ثم تركها إلى النثرية وأخيراً القفز إلى حقل الرواية، من زاوية أخرى نستطيع القول إن البعض يئس من الشعر أو على الأقل من تجربته، زاوية غير هذه نجد أنها تعكس لنا التداخل أو شبهة التداخل بين القصة القصيرة جداً وقصيدة النثر ما جعلنا نتوقع الحركة من الشعر إلى القصة ومن ثم الرواية
أريد رأيك بصراحة بقصيدة النثر، بعد هذا المنجز الإبداعي الضخم لا أظن أن قصيدة النثر تحتاج إلى أن يقال فيها رأي، لذا استغربنا جميعاً عندما عقد أربابها ما سمي بمؤتمر قصيدة النثر قبل عدة سنوات، لكن كما قيل كثيراً فإن قصيدة النثر فتحت الباب أمام كل من أراد أن يكتب، عدم وجود قواعد وشروط أوهم الكثيرين بسهولة قصيدة النثر، لكن أعتقد أن عدم وجود قاعدة هو نفسه أصعب شروط قصيدة النثر، وإذا أردنا أن نحاكم قصيدة النثر فيجب أن نحاكمها في نماذجها الحقيقية عند كبار شعرائها.

هل تخاطب في شعرك هموم الناس أم قلوبهم؟
الأمر مختلط جداً ولا فواصل حمراء حادة، الشعر فن يذهب على القلب من ناحية، وكما قلت يدخل فيه العمل العقلي الهادف ما يجعله مهتماً بهموم الناس وقضاياهم، وقد يكون عملاً ذاتياً منكفئاً على الدواخل لكنه يلامس مشاعر الآخرين.