*
النذير إبراهيم العاقب
*
ظل المكون العسكري في السلطة ومنذ عدة أشهر سابقات يدعو كافة القوى السياسية السودانية لجهة التواثق على وثيقة اتفاق وطني جامع، تفضي إلى تأسيس حكم ديمقراطي مستدام في السودان، تحقيقاً لرغبات كافة فعاليات الشعب السوداني التي ظلت في حالة تظاهر مستمر ورفض قاطع للمكون العسكري خلال الفترة الماضية، الأمر الذي إستدعى الفريق عبد الفتاح البرهان إلى الخروج على الملأ وإعلان زهده في الحكم، ودعا القوى السياسية للتوافق على تشكيل حكومة قومية خالية من العسكر، ليتم الإستهداء بها للإعداد لحكم مدني خالص للبلاد في المرحلة المقبلة، فضلاً عن الفضاء إلى تشكيل برلمان قومي يكون نواة لوضع الدستور الدائم للبلاد، الأمر الذي لم يحدث حتى الآن رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على هذه الدعوة،
ومن المعلوم أن البلاد الآن في أمس الحاجة إلى توافق سياسي عريض يجنبها التفكك والتشظي والانفلات الأمني خلال الفترة الراهنة، الأمر الذي يحتم على القوى السياسية، إن كانت حريصة بالفعل على وحدة وإستقرار وإستدامة السلام في السودان، الإسراع بالجلوس في مائدة مستديرة لمناقشة قضايا السلام والوحدة والاقتصاد والحريات والحقوق الأساسية والهوية، والعلاقات الخارجية، وقضايا الحكم وتنفيذ مخرجاته، خاصة معالجة الشأن الإقتصادي ومعاش الناس، على أن تكون هناك حكومة لمدة أربع سنوات، وأن يكون الشعب السوداني هو الضامن لتنفيذ المخرجات حتى يتحقق الإستقرار فى البلاد ولضمان تجنيب البلاد مآلات الإحتراب والنزاعات.
ولعل مجرد إنعقاد جلسات حوار وطني جامع خلال الفترة المقبلة وهو يضم أغلب القوى السياسية السودانية الداعية لتشكيل حكومة مدنية خالصة، والتي تتمثل في كل الأحزاب وأكثر من عشرين حركة مسلحة، يُعتبر خطوة متقدمة، بيد أنها تظل ناقصة، وتنطلق بقدمٍ مبتورة متكئة على عكازتين، بسبب غياب ال الرؤية والتوافق الوطني الذي كان من المفترض أن يكون هو نقطة الانطلاق لحوار وطني شامل يهدف لاتفاق يخرج البلاد من وهدتها السياسية الراهنة، وهو الأمر الذي لم يحدُث لأسباب تكاد تكون معلومة للكل، الأمر الذي سيجعل الحوار الذي دعا له البرهان القوى السياسية، كحوار الطرشان، ومماثلاً للمثل القائل، إنه (زفة بدون عريس).
وليس خافياً أن رفض الأحزاب السياسية للمشاركة في مثل هكذا حوار جاء لعدم إتفاقها مع القيادة العسكرية الممثلة في رئيس مجلس السياده، في توفير شروط إجرائية ضرورية، وتعتبرها مهمة لتهيئة الظروف المناسبة التي في ظلها يكون السودانيين مستعدين وقادرين لخلق وإدارة حوار وطني ناجح، والمتمثلة في أهمية وقف الخلافات السياسية دون شرط، وأن تلتزم الأطراف المعنية كافة بعنصر وقف المناكفات والتضاد السياسي فيما بينها، فضلاً عن غياب أسس الحوار الضروري في أي حوار وطني، والتي يجدر أن يتفق المتحاورون على مبادئه الجوهرية التي تتمثل في وضع غايات وأهداف للحوار تتضمن التأسيس الدستوري والسياسي والمجتمعي في إطار توافقي بين السودانيين ينشئ دولة عادلة وراشدة ونظاماً سياسياً فاعلاً، والتعاون والتناصر بين جميع السودانيين لتجاوز كافة أزمات السودان، والتوافق على دستور وتشريعات قانونية تكفل الحرية والحقوق والعدالة الإجتماعية، والاتفاق على نظم مستقلة لحماية تلك الحقوق، بجانب أهمية التواثق على التشريعات والإجراءات الضرورية لقيام انتخابات عادلة ونزيهة تحت أشراف مفوضية مستقلة سياسياً وماليا وإدارياً، على أن تتوافر لها مطلوبات لتهيئة المناخ وإجراءات بناء الثقة، والمتمثلة في أهمية كفالة الحريات السياسية، والتأمين الكامل على حرية التعبير والنشر، وتجنب خطاب الكراهية والتراشق الإعلامى بين أطراف الحوار، ووضع الضمانات اللازمة للسلامة الشخصية لحملة السلاح الذين لم يوقعوا على اتفاق جوبا للانخراط فى الحوار مع وقف إطلاق نار شامل بترتيبات أمنية كاملة، تلك إذن هي نقاط الخلاف والإختلاف بين المكون العسكري في السلطة والقوى السياسية.
ولعله ليس من سبيل إلى الوصول إلى حل مستدام لمشاكل السودان وأزماته إلا بإحداث التحول اللازم في المركز والبحث عن معالجة جديدة لجميع الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في السودان، تقوم على أساس المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وفصل الدين عن الدولة، ولإحداث أي تحول جوهري في إقترانه بإحلال السلام المستدام والتوافق الوطني والسياسي الشامل في السودان، لابد للحكومة وكافة القوى السياسية المعنية، بإنتهاج نهج شامل ومفارق للحلول الجزئية، ويقيناً فإن من الأهمية بمكان أن أي نهج يرمي إلى التوصل إلى إحلال السلام الدائم والتوافق السياسي في السودان سيقتضي بالضرورة عملية شعبية قوامها مشاركة الشعب، وليس مجرد التوصل إلى حل توفيقي بين اللاهثين وراء السلطة والجاه، وتسوية لا تتجاوز خدمة مصالح النخب السياسية وحدها، وسواء تعلق الأمر بعملية دستورية أم باتفاق سياسي، فإنه يجب أن تكون تلك العملية مشرعة الأبواب والنوافذ على الأحزاب السياسية قاطبةً، فضلاً عن أهمية وجود فترة حكم إنتقالية مؤقتة، توكل إليها مهمة عقد مؤتمر دستوري لجميع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني في السودان، بهدف الإجابة عن السؤال كيف يحكم السودان، قبل من يحكم السودان.