صلاح شعيب
في عام 1922 وهب الله السيد صالح محمد إبراهيم سراج، وزوجته عائشة كاشف علي عثمان في قرية أرقين طفلاً يضمر النبوغ الذي تفجر في مقبل الأيام، إذ امتدت سيرته الأدبية في البلاد، وبدت في سنواته الحافلة السريعة ملامح جذابة لرسالته الحياتية التي لم تكتمل كلها بوفاته في أواسط العمر. هناك تربى الطفل في أرقين في ربيع صباه، وحرمه مرضه من مواصلة الدراسة التي انتهت عند الوسطى، ولكنه ثقف نفسه. ولاحقا يشعل العصامي مرسي صالح سراج صحافة الخرطوم بكتاباته الأدبية. ولا يني من تأكيد حبه للرياضة، وتعصبه للمريخ خصوصاً. وقدرته الفذة في الكتابة بالانجليزية التي مكنته من شغل مناصب عليا مع فروع عدد من الشركات الأجنبية في البلاد، وعند هجرته تبوأ مركزا مرموقا في وزارة الثقافة والاعلام هناك، مدير لأحد أقسام الترجمة. وفي صحيفة الناس لصاحبها الأستاذ محمد مكي يسطع نقده الفني أيضاً. وفي فترة وجيزة أصبح من الشخصيات المعروفه، ومن أصدقائه الأساتذة علي شمو، والسر قدور، ومحمد صالح فهمي، وأبو عاقلة يوسف، وكل رؤساء تحرير الصحف اليومية والمجلات. وفي الشعر يردد الناس مع وردي قصيدته “يقظة شعب” التي كانت وحدها ستكفيه حتى يصبح واحداً من أميز الشعراء في بلادنا، وقام من بعد بترجمة نصها بلغة إنجليزية رصينة.
هامَ ذاك النّهرُ يستلهـمُ حُسنا
فإذا عبْرَ بلادي ما تـمنّى
طرِبَ النّيلُ لَدَيْها فتثنَّىَ
فأرو يا تاريخ للأجيالِ أنّا
ثائرٌ إذ هبَّ من غفوتِهِ
ينشدُ العلياءَ في ثورتِهِ
ما اندفاعُ السّيلِ في قوّتِهِ
عجباً مَن لهُ جندٌ على النّصر يُعين
كُلُّنا نفساً ومالاً وبنين
نـحنُ في الشِّدَّةِ بأسٌ يتـجلَّىَ
وعلى الوُدِّ نـضُمُّ الشّملَ أهلا
ومع وردي كرر التجربة من خلال قصيدته الوطنية في أعقاب أكتوبر:
قالوا تخاذل واندثر، ومضى فليس له أثر
قالوا تملكه الحذر
ورأى السلامة فى التأني
فاستكان إلى الخدر
قالوا سهى .. قالوا لهى
من قالها؟
اليوم جاءهم الخبر
كالفجر كالبوق المدوّي
في ركاب المنتصر
**
شقيق الشاعر الراحل المهندس محمد صالح سراج – والذي شغل عضوية مجلس إدارة سودانير سابقاً، وابنة مرسي هادية، وابنه خالد، مشكورين أمدوني بمعلومات قيمة عن الراحل مرسي، والذي شغل في زمانه دنيا الناس، ولم يقعدها.
حدثني شقيقه المهندس محمد إن أرقين قرية طولية على الشاطئ الغربي لنهر النيل. حدودها الجنوبية تقابل الطرف الشمالي لمدينة وادي حلفا علي الشاطئ الشرقي، وهي تمتد من وادي حلفا شمالا لعشرة أو خمسة عشر كيلومتراًً. قبل فيضان 1964 كانت بيوت القرية تطل على النيل مباشرة، وهي قرية وادعة جميلة تحفها أشجار نخيل بكثافة عالية. كان مرسي، وأقرانه، هناك يمتطون المراكب التي تحمل البلح، وخضار البصاولة من الجزر لوادي حلفا التي كانت حينها مرصوفة الشوارع، والشواطئ. وتكثر فيها المباني من طابقين، والفنادق، والمنتزهات.
ثلاثة بيوت تجاورت مع بعضها بعضاً في أرقين كمرتع لطفولة مرسي. البيت الذي نشأ فيه، والذي يبعد ثلاثين مترا من النيل، ثم منزل عمه حسن. وبين البيتين ممر يبدأ جنوبا وينتهي شمالا عند شجرة لبخ عملاقة. كان ظلها هو بمثابة باحة لكل سكان البيوت حولها، ثم هناك منزل قريبهم محمد دهب بجنينته، وغربها جنينة صالح وحسن سراج.
قبالة الجنينتين كانت هناك ساقيتان، الجنوبية لحديقة محمد دهب، والشمالية ملك لآل سراج، وهناك شمال ساقية آل سراج شجرة سنط ضخمة، ساقها على حافة النهر، وتتدلى أفرعها لتلامس مياه النيل أيام الفيضان.
وأسرة مرسي تعود إلى جدهم سراج من أرقين، وإشكيت. وهو ينتمي إلى آل شورة، وحبوبته لوالده من آل ارناؤط. أما أهل أمه فيعودون إلى جدهم كاشف علي عثمان، وكانت الأسرة ميسورة تمتلك أراضٍ ، حجمها خمسة فدادين كما أن من ثروتها النخيل الذي هو أساس الوضعية الاجتماعية في أرقين. من أقران مرسي في أرقين برز محمد دهب الذي صار ضابطاً، ومدير شرطة للسكة الحديد، ود. أحمد محمد وكيل وزارة الثروة الحيوانية، وهناك أبناء عيسى زيادة، وشريف اندراوي، وعلي وكمال هابش، ومحمد حسن محجوب، ومحمد أحمد سراج، و د. سليم صادق أويه، وصلاح قاسم.
اما في حلتهم في أرقين فالبيوت التي تجاوز بيت صالح سراج، وأخيه حسن الذي كان منزوجاً من خديجة حاج – وهي من آل شورة – تجد بيوت آل أرناؤط، واندراوي وهابش، ومحمد دهب، وغريب، وعيسي زيادة.
**
هناك يلعب مرسي، مع هؤلاء الأقران، حول أماتهم، وأهاليهم. أما العابر الناظر من وسط النهر إلى شاطئ القرية فيراها مثل جزر هاواي البديعة حيث تحفها أشجار النخيل بكثافة بظلالها، وهدوئها، ورمالها الباردة بينما يغرد القمري في أغصانها مستمتعاً بهذا المناخ الساحر. كانت متعة مرسي، وأترابه أن يخلعوا أحذيتهم الباتا، وهم في طريقهم للخلوة لينعموا بملمس الرمال الباردة من طلال النخيل الكثيفة، والتي لا تترك لأشعة الشمس سبيلًا لتصل إلى الأرض تحت النخيل. إنه منظر حلو أخاذ لأبعد الحدود يتذكره المهندس محمد صالح سراج ويقول إن الأعراس في القرية تمثل مهرجانا للكبار، وكرنفالاً خاصاً للصغار، حيث تكثر الذبائح، ويتمتع مرسي، وأقرانه بأكل الطيبات.
مصادر القرية المركزية تتنوع، ففيها مساعد طبي بخبرة كبيرة في العلاج، وشفخانة له. وهناك الرجل الرسول، حيث عند آخر الشهر يبعث المسافرون المصاريف بواسطته من القاهرة، ومدن السودان، فترى الرجل كبير السن راكباً علي حماره، ويحمل الأمانات لأهل القرية. وحين يجد والدة مرسي، ونساء أخريات، تحت شجرة اللبخ التابعة لمنزل محمد دهب يسلمها أمانة صالح سراج التي بعثها من القاهرة في حدود ريالين، وأحيانا ثلاثة. وكذا تنال نساء غيرها حظهن مما يبعثه الرجال، أو الأبناء، سواء في مصر، أو الخرطوم. دكان التاجر أبا يزيد هو أيضا من مراكز القرية حيث به مكتب البوستر، وجهاز التلفون، والتلغراف.
ويتذكر الباشمهندس أن هناك تاجرا آخر يدعى محمد ذات النور وهو تاجر كبير تجد عنده كل شيء ويتاجر في البلح، ومركزه عامر طوال الوقت. وفي موسم البلح تعيش أرقين في حبور. فبعد أن يجف يكون هناك ما هو أشبه بمهرجان في حصد النخيل. الناس يتكومون للحصاد هنا، وهناك، ويتلقون السبائط من الطالعين في الشجر، ثم في ختام حصاد المهرجان يخزنون ما ينون بيعه في جوالات لبيعها للتجار في أرقين، أو من يفد منهم من وادي حلفا. حريصون، أيضاً، هم الأهل الذين يحتفظون بكميات كافية من أجود الأنواع لاستهلاكهم للعام القادم في آنية تشبه الأزيار سعةً وحجماً. ولكنها ذات نسق واحد في الشكل. وهي بارتفاع المتر والنصف تصنع من الطين، وتوضع في غرفة المخزن في المنزل. يخلط التمر في هذه المواعين برماد النار، وذلك بهدف حمايتها من التسوس. عند الحاجة تؤخذ الكمية المراد أكلها فتغسل بالماء ثم تترك لتجف. إن لحظة حصاد المحصول ذا السعرات الحرارية العالية مثل يوم العيد كون أن مصدر اقتصاد أرقين كله يقوم على البلح.
**
ويقول شقيق الشاعر: في موسم المدراس تخلو القرية من أبنائها الذين يدرسون الوسطي في وادي حلفا، والثانوي في وادي سيدنا، وبعضهم ملتحقون في جامعة الخرطوم. الذين يدرسون في حلفا يعودون في عطلة الأسبوع بالمركب، فهناك على امتداد شاطئ ارقين عدة مشارع لرسو المراكب. و على مسافات الكيلومتر تقريبا منهم هناك مشرع قبالة منزل عمنا حسن سراج، وكان هو المشرع الذي يتخذه مرسي في الذهاب إلى المدينة، أو الإياب. ويتذكر المهندس محمد صالح أنه كانت هناك ثلاث مراكب في أرقين، ضمنها مركب مصطفي، ومركب محمد أبكر، ولكل مركب زبائن معروفون. وفي يوم الجمعة يسير صاحب المركب رحلة خاصة بالطلبة زملاء مرسي الدارسين في الوسطى ليعيدهم لداخلياتهم عصراً، ولا يأخذ “ريس” المركب أي أجرة علي ترحيل الطلبة. ولكن عند توظف الطالب في الخدمة – وحين عودته في إجازته السنوية – لا يستخدم سوى المركب التي كانت تقله أيام التلمذة، ويجزل العطاء للريس في كل مرة يُستخدم فيها المركب.
وعندما يغادر أحد أعضاء أسرة مرسي، أو أحد أعيان القرية، إلى مصر يُوَدع في المشرع عند الصباح حيث يمتطي المركب إلى وادي حلفا. وحين تأتي باخرة المسافر الذي ودعته القرية عند الليل مارةً بمحازاة ارقين يتجمع الأهل عند الشاطئ في انتظار مقدم الباخرة. وحين تنسل من الظلام فجأة أمام ناظريهم من بعيد يوقدون النار في السعف الجاف، ثم يتابعونها تمخر في عباب النهر فيرونها كتلة من النور في الظلام تتهادى في وسطه بينما صورتها تنعكس في الماء فتلون صفحه، وتصدر صوتا ألفه السكان فيهتفون بهارمونية بديعة:
عديلة، عديلة
صلاة عليك يا محمد،
النبي قدام، علي ورا
عديلة أوو صالح سراج،
عديلة أوو حسن سراج
كانت هناك ثلاث بواخر نهرية جميلة مملوكة لحكومة السودان تعمل بين حلفا والشلال، وهو الميناء المصري قبل خزان أسوان مباشرة، وعلى بعد نحو عشرين كيلومترا من المدينة ترسو كل من هذه البواخر، وهي المريخ، والثريا، واللوتس. كانت البواخر تسحب الصندل على كل جانبيها. وكانت الصنادل هي الوسيلة الأنسب سعراً في السفر لمصر بالنسبة لسكان أرقين. فكم من مرة ذهب مرسي، ومعه عمه حسن، أو أمه، على هذه الصنادل لزيارة والده في مصر. أما الباخره نفسها فهي من طابقين يُشغل الطابق العلوي “كباين” للركاب المقتدرين، وفي مقدمة الطابق العلوي صالون فسيح به مقاعد وثيرة، وإطلالة رائعة للمنظر البانورامي أمام وحول الباخرة، حيث يستخدمه ركاب الكباين للترويح عن نفسهم حيث تقدم فيها خدمات البوفيه من مختلف المشروبات.
قبطان هذه البواخر، أو ما يعرف بالريس، هو من سكان المنطقة علي طول النيل حتى حدودنا مع مصر، وهم يتوارثون هذه المهنة بالممارسة، ويحفظون تضاريس النهر شبراً شبرا. وإذا بلغ الريس سن المعاش، وعاد إلى قريته فإن أي باخرة تمر على قريته عند الذهاب، أو الإياب يقوم الريس فيها بإطلاق صافرتها المميزة، وبنغمة معروفة تحية للريس المتقاعد.
**
الدكاكين في أرقين حينذاك مثل البنوك تسلف أهل القرية الأمينين فيردون ما أخذوه عند أول إرسالية مالية من مصر، أو السودان، وهي لا تقف عن التمويل. فدكان أبا يزيد كان مركز المعلومات والصلة بكل البعاد نسبة لوجود التلغراف، والتلفون. وإذا أنجبت امرأة مولوداً يرسل والده، وأقاربه، برقيات التهاني المنصوصة، والتي تزينها ألوان على ورق الرسالة، والمظروف الذي توضع فيه.
الباشمهندس محمد صالح مرسي يستطرد بذاكرته المتقدة قائلا إن جيل مرسي، وحتى بعض الكبار عانوا من العقارب، ولم يكن حل أمامهم سوى التفصيد ثم مص الدم، ثم يربطون أعلى مكان اللدغة لمنع سريان باقي السم إلى جسم الملدوغ. وخطورة السم تعتمد على نوع العقرب. فإذا كانت اللدغة من عقرب الطين فإن سمها ليس شديد الخطورة أما عقرب الرملة فهي الخطيرة في لسعتها. فهناك أناس كثر ماتوا بسم عقرب الرمل. ولتقليل وجود العقارب قرب منازلهم تفتق ذهن أهل القرية آنذاك حيث غالبا ما يأتون بصفيحة جديدة ملساء يدفنوها في الرملة بينما يخلون طرفها في سطح الأرض. وفي الصباح يجدون عقارب كثير وقعت في الفخ فيتخلصون منها.
**
تواصلت مع الأستاذة هادية مرسي صالح سراج فقالت إنها عرفت لاحقا أن والدها عليه رحمة الله الذي لا تتذكر عنه الكثير لصغر سنها كان فناناً تشكيلياً لا يشق له غبار. فقد قام برسم صورة للملك الراحل فيصل بن عبد العزيز آل سعود بالحجم الطبيعى بقلم الرصاص، وكانت هذه الصوره موجودة بالقصر الملكى السعودى إبان حكم الملك الراحل، وكان يشارك فى المسابقات التى ينظمها الأمير عبدالله الفيصل للشعر، وكان يفوز بالمركز الأول في أغلب الاوقات، وأضافت أنه من خلال عمله في الصحف كناقد رياضي كان يتنبأ بنتيجة المباريات من تشكيلة الفريق، وتأتى النتيجة حسب ماتنبأ به، فيما كان يصف المباريات بأربعة ابيات، أو بيتين من الشعر يضعها كعناوين للصفحة الرياضية التى يكتب فيها، وقالت هادية المهتمة بالأدب إن مرسي هو أول من أتى بفكرة الملاحق الرياضية. وأشارت إلى أن والدها عمل مترجما بوزارة الثقافة والإعلام في السعودية بقسم الترجمة الفورية، كذلك ترجم قصيدته يقظة شعب إلى اللغة الانجليزية مقفاة، وفقاً لما قالت هادية التي كانت والدتها سعيدة محمد صالح أبو الريش رائدة تعليم البنات في أرقين، أما زوجته الأولى فكانت مصرية، وأنجبا حمدي الذي توفى في ريعان الشباب.
**
في إجازة المدارس يعود الطلبة فتكثر مناسبات الأعراس. يأتي مرسي الذي كان وقتها في الوسطى مع زملائه من وادي حلفا فيدرسون أولاد الأولية في فصول مدرسة ارقين الأولية. وبعد أن تنتهي مهمتهم يدرسهم طلبة الثانوي ثم تدور الدائرة على طلاب الثانوي الذين يجلسون أمام طلاب الجامعة فيستفيدون، وهكذا تتحول إجازة مثقفي القرية إلى موسم لتبادل المعارف. وعند نهاية الامتحانات تهتم نساء أرقين على السجية بالنتيجة وهم الأحرص عليها من الرجال الذين ضربوا في فيافي الدنيا.
فلا حل غير التعليم ولا مناص منه في ذلك الزمان الذي يعود إلى الأربعينات تتعلم حتى تشتغل ثم ترسل المال ليتم إعداد الجيل الجديد من أبناء القرية ليرفعوا من مكانة الأهل. ولذلك يرى الباشمهندس محمد أن التعليم كان ناجحاً في الشمالية، وخصوصا أرقين. وفي هذا المناخ عرف النابغة مرسيل صالح قيمة التعليم فجد في درسه، وكان تلميذاً ذكياً يقرأ بالإنجليزية. وهو يدرس الابتدائي ويتصفح صحيفة التايمز اللندنية التي كان عمه حسن يحضرها له من الموظفين الانجليز في وادي حلفا، فيستخرج الكلمات في كراسته. وحين تمتلئ الصفحات يكتب على الرمل، ويمسح ويكرر الكتابة حتى تستقر المعاني في ذاكرته.
**
يقول المهندس محمد صالح سراج إن عمه حسن الذي لم ينجب كان يحب مرسي. وكلما عاد إلى المنزل جلب له من الخواجات الذين كان يعمل معهم الجبنة الرومية والمربى، وهاذراً يقول شقيقه محمد إن كان مرفهاً في الاكل في حلتهم التي اسمها سوجة، وجنوب منها نلوة، أما شمالها فكرو. ولكن لا كهرباء غير الفوانيس، وفي الصيف لا يعانون، فالمباني معروشة من سعف النخيل غير أن البرد قارس في متن القرية.
صالح سراج كان يبعث من مصر مع كل عائد – زائر جزمة باتا لمرسي منذ أن بدأ مشوار القراءة في الخلوة، والأولية. هناك تميز مرسي بذاكرة قوية في الحفظ، وذكاءً كبيراً. وتمثل هذا الذكاء في أن والدته كانت تصطحبه إلى السوق فيملأ من مخزن البلح جيوبه. وحينما تمر الوالدة بدكان نفيسة سيدي تشتري له الطعمية التي يحبها ثم يخرج من الجيوب بلحاً ليقايضها بالطعمية ليظفر من العجوز. دكان نفيسة سيدي كان المكان المفضل للأمهات لترك أبنائهم حتى يعودوا من زيارة المرضي في المستشفي التي لم يكن مسموح اصطحاب الأطفال إليها.
مرسي وشقيقه الوحيد محمد لا بد أن والدتهما عائشة تخاف عليهما أثناء مرورهما في الصبح للخلوة من تماسيح النيل، وكذلك هو شأن نساء القرية. بقلم الكوبيا ترسم كل يوم الأمهات في “عضمة الشيطان” عند كل طفل خطوطا حتى إن عاد الاطفال فحصوا صنيعهن، فإذا اختفت الخطوط دلالة على إثر السباحة تعرض الأطفال للجلد، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد. بل تخطف أمهات الأطفال الصغار الجرجار ثم يسعون ليشتبكن مع أمهات الاطفال الكبار لكونهم قادة فكرة النزول إلى النيل. ولا بد أن مرسي وشقيقه عاصرا الجلد في المدرسة. فيقول الباشمهندس المتخصص في مجال الطيران أنهم كانوا يتحاشون الرطانة كما كان يصطلح عليها آنذاك، ولا يزال الكثيرون يعترفون بأنها اللغة المكتملة الأركان. وأحيانا يحدث بعضهم الأساتذة نكاية بأن فلانا رطن ودون أدنى تحقيق يجلد مرسي أو شقيقه جلدتين تلهب الظهر.
**
الأديب مرسي صالح سراج مات في لندن، ودفن في مقابر فاروق، وشارك في تشييعه عدد هائل من الأهل، ورموز المجتمع. وهكذا طويت آخر صفحة لتاريخ ناصع ارتبط بواحد من المبدعين المميزين في تاريخ القلم السوداني. إذ لم يثنه المرض من إظهار عبقريته التي جاءت عبر عصاميته التي عرفتنا بنبوغه الإبداعي. والعزاء أن نبوغ مرسي انتقل إلى حفيده مرسي خالد مرسي محمد صالح الذي يحمل شهادة نبوغ من المجلس العربى للموهوبين والمتفوقين، وسجل مئة وثمانية وستين في درجة الذكاء، والتي تعد الأعلى في السودان، لكونه يقرأ العربية، والإنجليزية، وهو لما يكمل العامين ونصف، دون أن يذهب للمدرسة، أو يعلمه أحد. وبمثلما تهربت الدولة من نقل جثمان الجد العبقري من لندن الذي تولت أمره السعودية، أهملت رعاية حفيده النابغة فتولت رعايته دولة قطر عبر منحة، وذلك في وقت صرفت الدولة عشرات المليارات في حروب خاسرة..حسبنا الله، ونعم الوكيل.