*
النذير إبراهيم العاقب
*
بهدوء ودون أن يفطن له أحد، وحتى وزارات التربية والتعليم في كل أنحاء السودان، مر اليوم العالمي للمعلم والذي صادف الخامس من أكتوبر الجاري، مر مرور الكرام، دون أدنى إهتمام أو إعتبار من قبل حتى المعلمين أنفسهم، بل صادف وفي ذات اليوم إحتجاج عنيف من قبل لجنة المعلمين السودانيين، وهددت بتنفيذ إضراب عن العمل حال لم تلتزم الحكومة برفع الحد الأدنى للأجور، وحقاً، فإن تهديد المعلمين يأتي في ظل أوضاع سيئة يعيشها قطاع التعليم بالبلاد مع بداية العام الدراسي الحالي، ووسط نقصٍ وتردٍّ في البيئة والبنى التحتية، جراء السيول والأمطار والفيضانات، وبدأ الأحد العام الدراسي الجديد، وسط ظروف اقتصادية بالغة التعقيد، ويشكو عدد من أولياء الأمور من عدم قدرتهم على تحمل متطلبات الدراسة، من تكاليف المواصلات والوجبات والاحتياجات الدراسية الأُخرى.
وتبع إعلان التهديد بالإضراب، زعلان اللجنة رفع مذكرة لمجلس الوزراء يوم السادس عشر من أكتوبر الجاري، وأوضحت اللجنة في بيان أن المذكرة ستشمل المطالبة برفع الحد الأدنى للأجور إلى (٦٩٩٤٠)، بجانب رفع طبيعة العمل من (٥٠) بالمائة إلى (٧٠) بالمائة للمعلمين، و(80) بالمائة للتربية الخاصة، ومعلمي مناطق الشدة، والتعليم الفني، واستحداث علاوة للعاملين بالتعليم (١٠) بالمائة من المرتب الأساسي، تحت مسمى علاوة تعليم، على أن يشمل التعديل كل العاملين بالتعليم، ولوحت باللجوء للإضراب في حال عدم الاستجابة لمطالبهم، كما أوضحت أنها ستشرع في تكوين لجان للتصعيد في كل المحليات والولايات، بجانب لجان للإضراب في كل المدارس، وقالت اللجنة في بيان صحفي، إن المذكرة سوف تقدّم نفس المذكرة لأمانات الحكومات في الولايات المختلفة، وأن يكون تقديم المذكرة عبر مواكب، وترفع صورة لوزارات المالية، التربية والتعليم الاتحادية، الحكم الاتحادي والتربية بالولايات.
وأمس رهن وزير المالية، جبريل إبراهيم، تطوير التعليم بتوجيه الموارد المالية عن قصد للتعليم، مشيراً، لدى مخاطبته ورشة عمل بالخرطوم، إلى التحسن الذي طرأ على مستحقات المعلمين، وقال لكن لابد من دعم إضافي حتى نوفر للمعلم وقته وصحته، وهو يلهث ويكد وراء الدروس الخصوصية، وزن الدولة مطالبة بأن تعيد للمعلم كرامته وتدريبه وتأهيله، وتوفير معينات الحياة له في الموازنات المالية القادمة.
ولعل ذلك بالفعل ما يجب أن يحدث عاجلاً، وإصدار قرار فوري من قبل الحكومة المركزية بزيادة أجور المعلمين بنسبة لا تقل عن ثلاثة أضعاف الأجور الحالية، لاسيما وأنها تعد واحدة من أهم القضايا التي تحتاج إلى معالجات عاجلة تنهي الصراع الدائر بين السلطة ولجنة المعلمين السودانيين لجهة تأثيرها المباشر على استقرار العملية التعليمية، وهروب المعلمين للمدارس الخاصة في داخل البلاد وخارجها، الأمر الذي يتسبب في تدهور وإنهيار قطاع التعليم الحكومي.
ولا ينكر فضل المعلم على الكل إلا مكابر، من حيث أنه بمثابة البدر الذي ينير دياجير الظلام، وطريق الأمة إلى التقدم والنجاح، وهو المنوط به بناء الأجيال الصاعدة والعقول الفذّة، فلولا المعلم ما تعلم أحد، ولولا المعلم ما تقدم وطن ولا نهض، وبفضل المعلم أصبح الطبيب طبيباً يداوي المرضى، والمهندس مهندسا، والرئيس رئيساً، حيث ظل المعلمون يبذلون الغالي والنفيس والعطاء اللامحدود لأجل بناء أجيال واعية، ومن أجل قيادة الأوطان إلى برِّ الأمان، فهم كالشمع الذي يحترق من أجل أن يضيء طريق الأجيال، وقد أجاد الشاعر أحمد شوقي وصف المعلم حين قال:
قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيْلَا
كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُوْنَ رسولاً
ولاشك أن المعلمين بالفعل هم خلفاء الرسل في إنارة طريق الأمة وبناء الأجيال المثقفة التي تخدم المجتمع، وحتى يكون المعلم مثالياً، وحتى يحقق رسالته على أكمل وجه، ويسير بالأجيال والأوطان إلى التقدم والرقي، يجب أن يكون وضعه المعيشي في القمة، حتى يكون متمكنا ومخلصاً في عمله ومقتدرا على حل المشكلات وإزالة العثرات التي تعترض طريق طلبته، وقدوة حسنة في خُلقه، لينا في معاملته، حيث أنه وباللين يمتلك المعلم قلوب الطلاب، وامتلاك قلوبهم أسهل وأيسر طريق إلى امتلاك عقولهم وتغذيتها بالعلم النافع، والمعلم المثالي هو مَنْ يكون معتدلا وسطيا في التعامل مع تلاميذه، فلا يجور عليهم ولا يبالغ في التهاون معهم، فالأمة الإسلامية تمتاز بِوسطِيَّتها، ومن حق المعلم على الطلاب والمجتمع أن يقدموا له الإحترام والتقدير، وأن يحسنوا التعامل معه ويحافظوا على مكانته ويستمعوا جيداً إلى نصائحه، الأمر الذي ينبغي معه عدم تجاهل نصائحهم وإغفالها، وقد ميزهم الله سبحانه وتعالى عن غيرهم في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِيْ الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ والَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ” [الزمر:9]، مما يوجب على أولياء أمور الطلاب أن التواصل مع المعلمين وأخذ ملاحظاتهم بعين الاعتبار من أجل بناء جيل أفضل وصنع وطن أجمل، فضلاً عن أهمية بناء صورة حسنة عن المعلمين في عقول الأبناء حتى يظلوا محافظين على مكانة ومنزلة المعلمين في قلوبهم وعقولهم، وترسيخ مفهوم أن مهنة المعلم تعتبر من المهن السامية والرفيعة والعظيمة، حيث يقدم المعلم لطلابه أهم ما يمكن أن يحصلوا عليه في حياتهم، ألا وهو العلم، حيث يعلمهم العلم النافع الذي ينفعهم في دينهم ودنياه.
ولا يقتصر دور المعلم على الجانب العلمي فقط، وإنما يقوم المعلم بتربية الطلاب على القيم الإنسانية والأخلاقية السامية، ويكسبهم ثقافة حب الوطن والفداء والتضحية من أجله، ويعلمهم معنى العزّة والكرامة، ويغرس في قلوبهم مبادئ الصدق والأمانة والوفاء والإخلاص، أي أن المعلم يبني أجيالا صاعدة متكاملة قادرة على صنع وطن أفضل وأجمل.
ومن منطلق ما يقدمه المعلم من تضحية وفداء وجهد وعطاء، فقد جعل الإسلام له مكانة عظيمة ومنزلة كريمة بين الناس، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)، حيث لا يوجد معلم خير بعد الأنبياء عليهم السلام، أفضل من المعلمين، الأمر الموجب على الأمم والشعوب كافة، أن وضع معلميها في أعلى وأسمى القمم، وأن تقدر ما يفعلونه في مسيرتهم العلمية والتربوية من أجل بناء مستقبل أفضل للأجيال والأوطان، فما ارتفع وطن إلا برفعة مكانة معلميه، وما ذلَّ وطنٌ معلميه إلا وأصبح في الأرذلين.
وقد أصبح اليوم الخامس من أكتوبر من كل عام يوماً عظيماً بجعله اليوم العالمي للمعلم، فتخصيص هذا اليوم للمعلم هو جزاء بسيط له على ما يقدمه من أجل الأجيال والأوطان، ويجب علينا أن نذكر أبناءنا في هذا اليوم وفي كل يوم بمكانة المعلم، ومنزلته وإنجازاته المتواصلة وتضحياته ودفعه الغالي والنفيس حتى يكون مستقبلنا أفضل، كما نقول لك أيها المعلم في هذا اليوم العظيم، في يومك الذي مر على المختصين في السودان مرور الكرام، أنت الأساس في إنارة عقول الأجيال، وأنت الأساس في صناعة الأوطان، لك منّا كلُّ التقدير والحب والإحترام، وأدامك الله نبراسا تنير طريق الأمة والأجيال إلى الحق، وتقيهم من الفتن والضلال.