إفلاس شركة عملة رقمية: ما دلهم على موته

صديق محمد عثمان

– أعلنت مجموعة FTX للعملة الرقمية أمس الجمعة ١١ نوفمبر ٢٠٢٢ عن إفلاسها، وشرعت رسمياً في إجراءات الإفلاس، وأعلنت الشركة أن مالكها سام بانكمان فريد قد قدم استقالته تمهيداً لاستلام الجهات الرسمية ( أصول) وممتلكات الشركة لإكمال إجراءات الإفلاس، بينما أعلن بانكمان – في تغريدات على حسابه الشخصي الذي يتابعه أكثر من ثلاثة ملايين شخص – عن أسفه الشديد، وقال بأنه يحاول تجميع تفاصيل ما حدث ليتمكن من الكتابة لاحقاً. وتقدر الثروة الشخصية لبانكمان ب ٢٦ مليار دولار أن تكون جزءاً من الممتلكات والأصول التي تشملها إجراءات الإفلاس.

– وكان سام بانكمان فريد؛ المولود في مارس من العام ١٩٩٢ لوالدين يهوديين يعملان في مجال القانون والمحاماة قد أسس شركة ( اف تي اكس) قبل ثلاثة أعوام في ٢٠١٩. وينشط والدا بانكمان جوزيف بانكمان وبابرا فريد في مجال اللوبي السياسي، وترأس والدته منظمة تقوم بتمويل مرشحين للحزب الديمقراطي في كافة مستويات الانتخابات الأمريكية .

– يعود تاريخ العملة الرقمية إلى مطلع الثمانيات من القرن الماضي؛ حينما بدأ اليهودي ديفيد لي تشوم بتطوير أول عملة رقمية أطلق عليها اسم ( اي كاش).

– وفلسفة العملة الرقمية تقوم على تطوير نظام قديم للثقة بين المتعاملين يستغني عن مطلوبات واجراءات الضمان المادي التي طورتها النظم الاقتصادية المختلفة في ظروف معينة. وعملية تطوير الثقة المالية هنا مقصود بها تطوير معايير وإجراءات وقيم الثقة المالية المتبادلة بين المتعاملين. ففي السابق كان المجتمع يعتمد عدة عوامل من بينها المرجعيات الاجتماعية والمصالح المتبادلة لتعزيز الثقة في التعامل المالي والنقدي والعيني.

– قدم ديفيد لي تشوم عدداً من البحوث خلال دراسته، ختمها ببحث تخرجه في العام ١٩٨٢ والمادة الأساسية لبحوثه كانت معالجة عملية توفير عوامل الثقة في التعامل النقدي بين مجهولين.

– وشكلت بحوث تشوم المرجعية لانطلاق عملية تحويل الإنسان كشخص موجود مادياً الى شخص موجود افتراضياً ، أي بمعنى آخر بناء مخزون من المعلومات الشخصية عن كل شخص بما يكفي لتقييم قدرته المالية وتحديد مستوى الثقة ومخاطر التعامل معه نقدياً.

– ومثل بحوث تشوم ومنها؛ انطلقت بحوث أخرى لتطوير عمليات الرصيد الائتماني للأشخاص، وتسكين معايير قياس الثقة الائتمانية في نظم وقوانين التعامل النقدي والمالي للمؤسسات المالية.

– فلسفياً فإن هذه البحوث كانت بصورة أساسية تتركز على عملية عودة إلى ما قبل اعتماد المعايير المادية ( الذهب) كضامن في عمليات التبادل النقدي والتجاري والمالي، لكنها عودة لا تلغي عامل الضمان المادي بآخر معنوي؛ وإنما الاستفادة من التكنلوجيا في عملية تخزين معلومات وسلوك الأشخاص على نحو يحول هؤلاء الأشخاص أنفسهم إلى سلع الضامن لها ليس سمعتهم او مكانتهم أو أي من المعايير الأخلاقية، وإنما الضامن هو الجهة التي تملك معلوماتهم وتفاصيل ممتلكاتهم ودقائق سلوكهم الشخصي؛ خاصة فيما يتعلق بالمال.

– لم تكن مصادفة أن تنطلق بحوث تشوم وغيره في عقد الثمانينات بعد استقرار ورسوخ النظام المالي العالمي المفروض من قبل الفئات التي استعمرت العالم سياسياً واقتصادياً، واحتربت في ما بينها حربين كبيرتين أطلقت عليهما اسم الحروب العالمية، وهي في الحقيقة كانت حروب اقتسام النفوذ السياسي والاقتصادي على العالم، والتي انتهت بانتصار معسكر غربي على آخر غربي وفرض شروط استسلام وتسوية ضمنت تجريد المهزوم من النفوذ السياسي والاقتصادي.

– فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى شرعت الدول الاستعمارية في تأسيس نظام مالي ( دولي) تستهدف اجراءاته تعزيز نفوذها والتأكد من استفادتها من تعاملات الأفراد والشعوب والدول فيما بينها، وفي ذات الوقت ضمان تدفق المعلومات المالية إليها، فأصبحت عمليات بسيطة كتصدير مزارع في السودان محصول زراعته الى مستهلك في مصر مثلاً تمر عبر اجراءات بنكية معقدة هدفها الأساسي استقطاع عوائد مالية، وفي ذات الوقت توفير معلومات للجهات التي تتحكم في عمليات الاعتماد البنكي وتعزيزه وعمليات التأمين وغيرها.

– واستقر هذا النظام بعد انسحاب الاستعمار السياسي؛ لتصبح البنوك السيادية الوطنية في المستعمرات السابقة وكيله المعتمد. فبنك السودان على سبيل المثال لا يستطيع أن يكون ضامناً مباشراً لدى بنك مصر المركزي في عمليات التبادل التجاري بين البلدين؛ إلا من خلال تعزيز اوروبي للثقة وتأمين غربي على المصالح المتبادلة وهكذا .

– ولكن الجهات التي فرضت هذا النظام المالي على العالم كانت لا تزال تتصارع للسيطرة على بقاع كثيرة منه، وتصارع نزعات وطنية متمردة على نظامها السياسي والمالي هنا وهناك، ولم يكن من المعقول أو المنطقي أن تتم عمليات تمويل النظام العنصري في جنوب افريقيا مثلاً من خلال خطابات اعتماد بنكية من بنك الشعب ( volksbank) معززة بنك ( Swiss credit ) مثلاً، ولا أن يتم دفع أموال الرهائن الأمريكيين في إيران مثلاً، وتمويل عمليات بيع السلاح لثوار الكونترا او غيرها من العمليات، من خلال نظام مالي مصمم كوسيلة تحكم.

– وكانت عمليات التحاويل المالية لهذه العمليات وغيرها تتم مادياً بنقل الأموال، ثم تطورت إلى عمليات ورقية افتراضية الضامن فيها في معظم الأحيان افراد بنوا ثروات ضخمة جداً من خلال قبول المخاطرة بحياتهم.

– نظام الثقة الذي أسسه هؤلاء المغامرون كان هو أحد أهم المصادر الفلسلفية للمغامرين الجدد الذين شرعوا في البحث عن تأسيس عملة رقمية. ومثلما كان مفهوماً غض النظام المالي ( الدولي ) بصره عن عمليات ترسيخ النظام العنصري في جنوب افريقيا او تسليح ثوار الكونترا بأموال المخدرات، فقد ظل هذا النظام نفسه يغض بصره عقوداً طويلة عن عملية تطوير العملة الرقمية.

– فبينما لا يمكنك تأسيس أي عمل تجاري صغير أو المبادرة بتأسيس فكرة جديدة للخدمات في أي مكان في العالم؛ دون أن تصطدم بمنظومة بيروقراطية مكتبية وقرصنة مالية على أفكارك ومبادراتك، فإن فكرة العملة الرقمية تطورت من بحوث إلى تجارة ضخمة ليس لها سجلات رسمية ولا تستطيع أي جهة تقدير حجمها إلا تخميناً فقط، فأفضل المصادر تقدر عمليات التبادل السنوي في مجال العملة الرقمية في الولايات المتحدة الأمريكية بين مليار وملياري دولار وهي أرقام وهمية أما دولياً فليس هناك مصادر دقيقة.

– وبينما لا يزال عالمنا المسمى ثالثاً عاكفاً على تعزيز وترسيخ ما تم تكليفه به من اجراءات ترسيخ النفوذ الغربي مالياً وسياسياً، فإن عدداً من الشركات العالمية مثل قوقل وشل وغيرها، ظلت تعلن منذ سنوات عن نواياها إطلاق عملتها الخاصة بها استناداً إلى تجربة العملة الرقمية وبالاستفادة من مخزون رصيد ضخم من المعلومات التفصيلية عن الأفراد على نحو يمكنها من استنباط أنماط السلوك البشري، بل وتوظيفها وتوجيهها بدرجة عالية من الدقة.

– إذن فقد انتهى دور الدولة الوطنية كوسيلة للتحكم وقريباً ستكون كل المؤسسات المكونة لخرافة الدولة الوطنية من بنوك مركزية، وربما حكومات مجرد أكوام من المواد والموارد المادية والبشرية التي تستوجب إعادة التدوير والتصنيع للاستفادة منها. وسينشأ مجدداً فكر أو منظومة أفكار كاملة حول التجارة الجديدة تجارة إعادة تدوير مؤسسات التحكم التقليدية.

– هذا مشهد كامل ومسرح يعاد فيه تجسيد سورة سبأ التي قصها علينا القرآن الكريم بلغة مسرحية عالية البلاغة حينما عرض علينا سليمان عليه السلام فوق كرسيه والجن بين يديه مستغرقة في عمل المحاريب والجفان والتمثيل، ولا يجرأون على تحدي سلطته عليهم أو فحص حياته من موته، حتى دلتهم عليه دابة الأرض تأكل منسأته ( فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) ومباشرة يعمل القرآن (فلاش باك) ليفتح كوة على التاريخ ليشرح لنا لماذا وكيف انتهى أهل سبأ إلى تلك الحال، فلقد ( كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال ، كلوا من رزق ربكم واشكروا له ، بلدة طيبة ورب غفور) ولكنهم أعرضوا ( فأرسلنا عليهم سيل العرم؛ وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل).

– أكثر من أربعة قرون على نشأة العملة الرقمية ظلت خلالها حكوماتنا ونخبنا مستغرقة تماماً في عمل التماثيل والجفان والمحاريب لنظام يقبع فوق رأسها وهي لا تجرؤ على رفع بصرها لتفحص حياته من موته حتى تخرج دابة الأرض (تشوم) فتدلها على موته، وفي الراجح من ظني فإنها سوف تنتظر في ذات العذاب المهين حتى يحل مكان سليمان؛ النظام الدولي، سليمان جديد فتواصل الانخراط في عملها كأن شيئاً لم يحدث.

 


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب