عبد الحفيظ مريود يكتب: قتل النفوس حلالو

بدون زعل

يستعجب المتنبئ، القامة السامقة، ” أتراها من كثرة العشاق.. تحسب الدمع، خلقة، في المآقي؟”..
وهي، إذ تفعل ذلك، لا تكون منتبهة إلى السبب الحقيقي. ترى أشخاصا يبكون فقط، ليحظوا بنظرة، كلمة، همسة، ابتسامة، لفتة، أي شيء. اجتهاد المتنبئ لإيجاد العلة انشغال ذات مهمومة. خارجية تقف هي، ذاتها، في صفوف الباكين. لكن صاحبة الشأن لا تتوقف لتعرف أكانت العلة في وجود الدموع على أعين من تقابلهم، “خلقة الله”، أم شيئا آخر. فهي مشغولة عن كل ذلك..
شايف كيف؟
صديقنا كان مديراً، طلبت إليه زميلة لنا أن يخدمها في شأن، وتباطأ. الخدمة لا يقدمها إلا هو.. بعد أسبوع، وبعد أن كررت ذلك، ولم يستجب، لقيه وزير محترم وقور. سأله أن يخدمها ويقضي لها شأنها ” جاتني بتبكي والله”.. صديقنا ضحك، وأجابه: “النسوان ديل عمرنا دا كللللو ببكننا.. خلي واحدة منهن تبكي شوية يا سعادتك”.
هل ذلك صحيح؟
لم نقم – كرجال – ولا مرة بجعلهن يبكين؟ أصحيح أننا دائماً من يبكي؟ أم إننا أنانيون، بشكل قاتم، للدرجة التي لا نلحظ فيها بكاءهن؟
السر السيد، الناقد والمثقف النابه، ينخرط في قضايا نسوية دقيقة. على صعيد التنظير المتجاوز، يتبنى طرح أسئلة “أصولية” تشغل العميقات، مثل قضايا “ذكورية الفقه الإسلامي”، مثلاً.. وهي حقول اشتغال يقل المنتبهون إليها من الذكور، عادة.. تحركه – غير نباهته الناصعة – رقة طبع وتكوين نفسي، يمكنك أن تتضامن معه. تثير مثقفات مغاربيات مثل هذه القضايا، لكن تناولها محلياً، سودانياً، لم يتجاوز الهتافية، بعد.. الإشراقات فيه شحيحة.
ليس من الترف – بأي حال من الأحوال – الوقوف عند مسائل مثل “الولاية”، التي ترتبط بمجتمعات معافاة، أكثر منطقية، تقدم رؤية موصلة إلى الزواج المدني، مثلاً. حتى عندما حاول برلمان الإنقاذ الأخير أن ينظر فيها، كمشروع قانون، أجهض قبل أن يصل إلى القراءة الثانية.
شايف كيف؟
تنزوي المرأة، الفتاة السودانية، في غرفتها تؤنسها دموعها، لأن “السلطة الذكورية” للأب، الأخ، العم، الخال وغيرهم، أو مجتمعين، قررت أن ترفض من تحبه الفتاة، وترغب في الزواج به، لأسباب لا تخصها، هي شخصياً، قليلات جداً، من يخضن تجربة تهديم المعبد، الخروج من القوقعة الاجتماعية أو الأسرية القاتلة. وحين تفعل ذلك – بكلفته العالية جداً – ينزع القاضي “الولاية” من ممثل السلطة الذكورية، ليقوم – بعد تقييمه الخاص – بدور “الولي”، في حين ينبغي أن يكون النظر والحل أشمل وأبعد من “تبديل الولي، بولي آخر”، داخل عباءة السلطة الذكورية المتحيزة.
هل هناك ما هو أفجع من سلب الفتاة/ المرأة هذه، حياتها المستقبلية وأحلامها، وسجنها في مشروع “زواج مقبول أسرياً واجتماعياً”؟؟!!
شايف كيف؟
ثم نقول إننا لا نبكيهن؟
حسناً…
في المستوى الأول، الذي ذهب إليه المتنبئ، المرتبط بـ”بكاء العشق والحب”، هل تركنا للمرأة فسحة أن تقول حبها، تتغزل، تشعق، تتدله؟ أم إننا أقمنا “سياجات الفضيلة والعفة” حولها، وطلبنا منها أن “تتجوعل” في شيء – نحن شخصياً – عجزنا أن “نتجوعل” فيه؟ وكان قميناً بنا فعل ذلك، بالأساس.
المرأة لا يحق لها أن تبدي حبها. أن تباشره، أن “تجعر” على الملأ، وتربط الدرب للحبيب، يحق للرجل أن يتخلى عن “جعلنته”، يبكي، يتبهدل بالحب، يجن عديييل كدا، مثلما فعل قيس، كثير عزة، جميل بثينة، المحلق بتاع تاجوج داك، لكنه محرم على النساء.. ولذلك لن تجد امرأة واحدة – طوال التأريخ الأدبي والعاطفي – كانت “مجنونة فلان”، مثلاً.. حتى الأندلسية الشاعرة ولادة بنت المستكفي “شايلين حالا ليوم الدين”..
شايف كيف؟
لو أننا – لأغراض الاستكشاف، فقط – تركنا المرأة تبوح، ومنحناها الأمان، لخجلنا مما نسميه “جراحاتنا” التي نفلق بها صمت وهدوء هذا الكوكب.. لن تفتح المرأة جراحاتها، أحزانها، خذلاناتها، فجائعها لأنها أصبر من الرجل.. لأنها أجمل منه.. لأنها أنبل منه.. ذلك أن في كتمان الجروح نبل لا يجيده، لا يقدر عليه إلا أصحاب العزائم.. باختصار: لن تفتح المرأة جراحها لأنها “أرجل” منا…
شايف كيف؟
لا نستطيع أن نتجاوز أنانيتنا لنرى المرأة.. ذلك شيء تيقنت منه.. ولعل ذلك ما أراد سيد الخلق، عليه وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم، أن ينبهنا إليه في وصيته ” استوصوا بالنساء خيراً”.. أو ما أهانهن إلا لئيم، وما أكرمهن إلا كريم..
الغناء الجميل كله، “جعير” رجال أنانيين، أجلاف، يقهر أخته، بنته، زوجته و”يجعر” في واحدة أخرى، أو يجعر في واحدة لم يعرف كيف يدخل إلى قلبها بجلافته..
ومع ذلك، سأغني مع أبوصلاح:
لي حبيب يا ليل…
قتل النفوس حلالو
وكم نظرنا هلال
ما شاقنا غير هلالو
شايف كيف؟


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب