kameir@yahoo.com
هل القائد عبد العزيز الحلو متورطٌ في الصراع؟
في رأي بعض المحللين السياسيين والمهتمين أنّ أحداث النيل الأزرق تبدو في ظاهرها نزاعاً بين المكونات “الأصيلة” وقبائل الهوسا، بينما في جوهرها صراع بين قوات الجيش الشعبي (القائد الحلو) وقوات الجيش الشعبي (القائد عقار). وبذلك، وجِّهت الاتهامات ضد القائدين عبد العزيز الحلو وجوزيف تكة في إذكاءهما نار الفتنة بين المكونات الاجتماعية في الإقليم، بل واقتحام مخازن السلاح في قيادة الفرقة الرابعة مشاة في الدمازين. وربما ترسخ هذا الفهم في أذهان البعض على خلفية الاتهامات والملاسنات المتبادلة بين قيادات الحركتين. فمن جانبٍ، حاكم الإقليم، الفريق أحمد العمدة، صرح بأنّ “جهات أجنبية والحركة الشعبية شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، ضالعين في أعمال العنف القبلي الذي وقع بالإقليم هذا الشهر”. ومن الجانبِ الآخر، نفي رئيس الحركة الشعبية شمال “في الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة، د. محمد يوسف المصطفى هذا الاتهام بقوله “ليس لحركة القائد عبدالعزيز الحلو شأن بالصراع الدائر بين المكونات الاثنية بأي مكان في البلاد”، بل حاكم الإقليم ورئيس الحركة مالك عقار وأعضاء المجلس الانقلابي هم من يثيرون الفتن”، على حدِ تعبيره (سودان تربيون 29 يوليو 2022).
ومع ذلك، بحُكمِ عِلمي من مصادر موثوقة أزعم بأنه لم تتم أي مواجهة مباشرة بين قوات فصيلي الحركة الشعبية شمال، وقد صدر توجيه من القائد عبد العزيز الحلو بعدم تدخل قوات الجيش الشعبي في العنف القبلي القائم في الإقليم. وللمفارقة، فقد وجِّه نفس الاتهام للحركة الشعبية في أحداث لقاوة بغرب كردفان، في أكتوبر الماضي، وهو الأمر الذي فشل مروجوه في إثباته إلى اليوم. ولا شك، إضافة لعدم توفر المعلومات الصحيحة لدى بعض المحللين السياسيين، فالبطبع هناك قوى سياسية ومجتمعية تنطلق من منصة عداء تاريخي وخلاف أيديولوجي مع الحركة الشعبية تُشيعُ مثل هذا الزعم، تشفياً وشماتةً في تشظي الحركة الشعبية.
في حقيقة الأمر، صحيحٌ أنّ القائدين عبد العزيز الحلو ومالك عقار أصبحا خصمين سياسيان منذ إعلان انشقاق الحركة الشعبية شمال في أكتوبر 2017. وصحيحٌ أيضاً أن الحركة الشعبية بقيادة الحلو لديها رأيٌ مُعارضٌ مُعلن لاتفاقية جوبا للسلام، أعادت تأكيده في بيان لها، إثر إندلاع الإقتتال مُجدداً في الإقليم في 20 أكتوبر 2022. البيان يُحمِّل 1) “عضو مجلس السيادة في حكومة الانقلاب مالك عقار،وحاكم الإقليم أحمد العمدة بادي مسئولية ما وقع من مجذرة، وذلك لدورهما المباشر في تأجيج الصراع بالإقليم”، و2) “تؤكد هذه الأحداث فشل اتفاقية جوبا في توفير الأمن والاستقرار للمواطنين”. ولكن، لا يعني هذا الخلاف السياسي بين فصيلي الحركة الشعبية أن يفضي إلى الاشتباك بين قواتهما، من جِهةٍ، أو بين هذه القوات وأطراف المكونات الاجتماعية، من جِهةٍ أخرى. فإن كانت هذه المكونات منقسمة في موالاتها لفصيلي الحركة الشعبية، لا يغيبُ علي قائدي فصيلي الحركة الشعبية أنه ليس كل مواطني الإقليم بمنتسبين إلى أحد هذين الفصلين، إذ هناك من لهم ولاءات سياسية أخرى أو ربما لا شأن لهم بالسياسة مُطلقاً. ولا أظنُ أنّ للحركة الشعيبية شمال، تحت قيادة الفريق الحلو، أي نية أو خطة لإسقاط حكومة الإقليم بالقوة مما يضرُ بالقاعدة الاجتماعية للحركة الشعبية ومواطني الإقليم عموماً، ويفاقم الأوضاع المأساوية الراهنة. ولعل القائد عبد العزيز الحلو يُدرك أن قطاعات مجتمعية مُقدرة ومؤثرة ترى أنّ اتفاقية جوبا للسلام قد وفرت للإقليم الحكم الذاتي وحققت لمواطنيه مكاسباً مُعتبرةً. وبنفس القدر، تظل مسؤولية حكومة الإقليم أن لا تقتصر المشاركة في السلطة على الموالين للحركة الشعبية شمال ِقيادة مالك عقار، أو على مكونٍ مجتمعي بعينه، وينبغي أن ترى كل مكونات الإقليم وجوهها في مِرآة هياكل حُكمِ إقليمهم. فلماذا لا يُقدم إقليم النيل الأزرق، بوحدة مكوناته المتعددة والمتنوعة، مثالاً يحتذى به لتجربة الحكم الذاتي، بل ولحكم البلاد قاطبة؟
وربما الأهم، في هذا السياق، ما يتداوله كثيرون حول علاقة العمدة أبو شوتال بالحركة الشعبية شمال ورئيسها القائد عبد العزيز الحلو، على خلفية مؤتمر صحفي للعمدة في أواخر ديسمبر 2021، في الدمازين بدار تنظيم القلعة الزراعي، أعلن فيه أنه رئيس الحركة في الإقليم. وربما أن عدم نفي أو تأكيد، قيادة الحركة الشعبية لهذا الإدعاء من أحد أسباب ترسيخ هذا التصور عند كثيرين، إضافة إلى أنّ عدداً مقدرً من الشباب المصطفين خلف العمدة أبو شوتال هم أصلاً من الموالين للحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو (وللقائد جوزيف تكة). وبعد بحثٍ وتقصيٍ، علِمتُ أن العمدة أبو شوتال لا علاقة مباشرة له مع قائد الحركة، ولا بنائبة الفريق جوزيف تكة، ولا يملك تفويضاً كتابةً أو شفاهةً من قيادة الحركة. فقد سبق أن أدخل الحركة الشعبية في حرج بظهوره في لقاءٍ شبه جماهيري في مارس 2022 التمس فيه من عرب الزنديه (طيب البليلاب)، شمال الرصيرص، التحالف معه ضد الهوسا، والذين بدورهم طلبوا من العمدة أبوشوتال أن يمدهم بالسلاح والذخيره. وذلك، بحكم “زعماته” للحركه الشعبيه-القائد عبد الحلو على خلفيته مؤتمره الصحفي الذي أعلن فيه بأنه رئيس الحركه الشعبيه بالنيل الأزرق، في ديسمبر 2022.
في الواقع، إن كان هناك تمثيلٌ للحركة الشعبية شمال في الإقليم فمن الأولى أن يكون من “مجموعة نشطاء السلام PAG” بالإقليم، فهم الأكثر قرباً لها، فقد وقع الطرفان على إعلانٍ سياسي في 14 يناير 2021. تضمن الإعلان 19 بنداً حول كافة القضايا المرتبطة ببناء السلام والتحديات التي تواجه التحول الديمقراطي وتحقيق العدالة وسيادة القانون، ونص البند 19 ب “التأمين على مخرجات ورشة العمل غير الرسمية حول علاقة الدين بالدولة، جوبا 29 أكتوبر-1 نوفمبر 2020، وهو على رأس أجندة الحركة التفاوضية. وبالرغم من هذا الإعلان السياسي مع الحركة الشعبية، إلا أنّ مجموعة نشطاء السلام (وتجمع القوى المدنية لشعب النيل الأزرق) اختارت الوقوف إلى جانب، والتحالف مع، حكومة الإقليم بغرض المحافظة على وحدة الإقليم وصيانة مكتسبات اتفاقية السلام. كذلك، فالحركة الشعبية شمال، القائد عبد العزيز الحلو، لا ترغب في أن تُعلن عمن يمثلها في الإقليم طالما لم توقع على اتفاقية جوبا للسلام، بل تنتظر الحركة استئناف المفاوضات مع الحكومة. فإن كان العمدة أبو شوتال يهدف ويسعى إلى المشاركة في حكم الإقليم وسيتأثر بنسبة ال 30%، المحفوظة للحركة الشعبية شمال (وفق تفاهمات اللجنة السياسية)، التي سبق وأن أشرتُ إليها، فعليه أن يأتي بتفويض من قيادة الحركة على نسقِ تسميتها لرئيس الحركة في مناطق سيطرة الحكومة.
إنّ اتفاقية السلام قابلة للمراجعة والتطوير خلال سيروة تنفيذها طالما شاركت أطرفها في هذه العملية، وبما لا يمس حقوق المواطنين المكتسبة، وبدون انحياز سلطة الإقليم إلى أيٍ من المكونات الاجتماعية، أو عزلهم من المشاركة فيها، حتى تحسم الانتخابات الأمر. إلا أنّ إلغاء الاتفاقية هكذا بجرةِ قلم أو بقرارٍ أُحادي، فذلك يعني فتح صندوق الباندورة للعودة إلى الحرب مجدداً، وربما بشكلٍ مختلف وأفظع هذه المرة، خاصة وأن الترتيبات الأمنية لم تكتمل بعد وما زالت الحركات المسلحة الموقعة، وغير الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام، تحتفظ بقواتها وسلاحها، إضافة إلى أن الإقليم متاخماً للحدود مع إثيوبيا المشتعلة أصلاً، من ناحية، ومع جنوب السودان، من ناحية أخرى.
خاتمة:
الصراع بين الهوسا والمكونات “الأصلية”، إثر مطالبة الهوسا بإمارة مستقلة لهم ضِمنَ هيكل الإدارة الأهلية، ما كان ليتطور إلى اقتتال أهلي وما صاحبته من انتهاكات فظيعة من كلا الطرفين. ذلك، لولا ضُعف بنية الإدارة الأهلية التي فشلت في أخذِ الأمر بيدها، والجلوس مع أعيان قبيلة الهوسا منذ أن ظهرت بوادر الفتنة، بدلاً عن تحولها إلى جماعة سياسية مُتنافرة الأهواء ومحاولة استقوائها بأطراف السلطة المركزية. وربما سؤالٌ يطل برأسه، له تبعات سياسية، ويبحث عن إجابة: كيف تستوي حقوق المواطنة المتساوية في ظِلِ قوانين الحكم الاتحادي والأراضي السائدة، والنظام القانوني المزدوج لملكية الأراضي، بغض النظر عن شكل الحكم وهياكله؟
لا تثريب انتقاد أداء حاكم الإقليم ولجنته الأمنية، وحتى الدعوة إلى تغيير الحاكم، إن كان ضالعاً في هذا الصراع ومسؤولاً عن عواقبه الوخيمة. ومع ذلك، لا يستطيع رئيس مجلس السيادة أن يقيله أو يستبدله بآخر، بدون التشاور مع عضو مجلس السيادة ورئيس الحركة الشعبية شمال بحسب أحكام اتفاقية جوبا للسلام. وعلى كُلِ حالٍ، فإنّ مسؤولية رئيس مجلس السيادة، والقائد العام للقوات المسلحة، تُحتم عليه أن يحافظ على وحدة كل إقليم في البلاد، والتي لن يكتمل قوامها بدون تحديد وتوصيف وضعية قوات الدعم السريع، وتنفيذ الترتيبات الأمنية وإصلاح القطاع الأمني.
وبالرغم من الخصومة السياسية بين القائدين مالك عقار وعبد العزيز الحلو، على إثرِ انقسام الحركة الشعبية شمال في 2017، تبقى هناك قواسمٌ مُشتركةٌ بينهما، ومن بينها: وقف الاضطراب المجتمعي والسياسي من أجلِ الحفاظ على الوحدة والتماسك الداخلي في إقليمي جنوب كردفان والنيل الأزرق. هذه المشتركات توفر أرضية وتفتح نافذة لتشكيل موقف موحد تصنعه كل فصائل الحركة الشعبية، يُفرِّقُ بين مكاسب اتفاقية السلام لأهل النيل الأزرق وبين كيف ومن يحكم الإقليم. أفلم تتوحد الحركة الشعبية، بعد انقسامها في 1991, حول الموقف من تقرير المصير، بينما ظل كل فصيل مستقل بذاته حتى تمت وحدة الحركة ساعة مخاض اتفاقية السلام الشامل؟
أختم، بأنّ الصراع المحتدم على السلطة المركزية، في ظل انشقاقات القوى السياسية وهشاشة تحالفاتها، والتنافس السياسي بين رئيس مجلس السيادة ونائبه، وتسييس القبيلة، أشرع البابَ واسعاً للتدخلات الإقليمية والإملاءات الدولية. وبنفس القدر، فإنّ المشهد السياسي المضطرب والانشطار المجتمعي السائد في إقليم النيل الأزرق، مقرونا بما يتمتع به الإقليم من ثروات طبيعية وموارد متعددة، في باطن وعلى ظاهر الأرض، لا شك مُغرياً لهذه التدخلات الخارجية طمعاً في التأثير على حكم الإقليم. وليس بعيد عن الأذهان الجدل الكثيف الذي أثارته المبادرة الإمارتية، المدعومة من إثيوبيا، لاستغلال أراضي “الفشقة” وإقامة مشروعات استثمارية، في ولاية القضارف، المتاخمة لإقليم النيل الأزرق، في أبريل 2021.
تورونتو، …. نوفمبر 2022