نهى محمد الأمين أحمد
nuha25@yahoo.com
شكوت لصديق عن تأزمي من وظيفتي التي قضيت فيها زمناً طويلاً، وفي آخر المطاف تيقنت تماماً أنها لم تحقق لي اكتفاءً من أي نوع، وربما كان استمراري لكل هذه السنوات خطأً كبيراً، وفي مثل هذه المواقف، تكون المعادلة صعبة للغاية، فالاستمرار أصبح مستحيلاً، والبداية من جديد وفي مكان جديد محفوفة بالمخاطر والتحديات، بالإضافة إلى احتمال مواجهة نفس الإشكاليات أو إشكاليات من نوع آخر، وينتهي الأمر بي كمن لم يطل عنب الشام ولا تمر اليمن.
خلال النقاش طرح عليّ الصديق سؤالاً، قال لي: ما هو المجال الذي تحسين فيه بالاكتفاء، الإبداع والحماس، أجبته بمنتهى القناعة، أنني أجد نفسي في الطبخ وصنع المأكولات بمختلف أنواعها، وهي الحقيقة المجردة، حيث لا توجد عندي بتاتاً متعة تضاهي صنع الطعام، بمختلف أنواعه، المشويات، الطواجن والمعجنات والحلويات، وقد اشتهرت في الأسرة وبين الأصدقاء والزملاء أنني طاهية ماهرة، ولا شك لدي أنني لو اخترت هذا الطريق منذ البداية، وتحصلت على شهاداتي الجامعية في هذا المجال، لكنت اليوم واحدة من الشيفات اللائي يشار إليهن بالبنان، بالإضافة إلى أنني سأكون سعيدة وشاعرة بالاكتفاء الكامل من عملي.
قادني هذا الأمر إلى التساؤل عن كمية الناس الذين يختارون مجالاً لا يناسبهم، ويكون الاختيار مبنياً على العقل الجمعي ووجهة نظر المجتمع، والأسرة التي تدفع أبناءها إلى المجالات التي تم تصنيفها على أنها العليا والأفضل، مثل الطب والهندسة، وكم وكم من هؤلاء الذين تخرجوا بنجاح من هذه المجالات ولكنهم لم يكونوا يوماً سعداء ومكتفين من وظائفهم لأن ميولهم تنتمي إلى مجال آخر، ربما لو سلكوا طريقه لكانوا أكثر راحة واكتفاءً.
وكم من طبيبة، ما زالت تتأزم من منظر الدماء حتى بعد ممارستها للمهنة لعدة سنوات، وفي كل مرة ترى فيها الدماء ينقبض صدرها وتتمنى لو أنها لم تطاوع والديها وتوجهت الى دراسة الفنون ولبت شغفها الكبير بالرسم، وغيرها الكثير من الأمثلة..
دول العالم الأول تضع موضوع الميول والرغبات هذا في صدارة قائمة أولوياتها، وعند ظهور موهبة عند أي طفل تتم رعايتها والاهتمام بها وصقلها بالتعليم والتركيز عليها، لذلك يتزايد عندهم كل يوم المبدعون، ولا تمارس أي ضغوط لتوجيه التلميذ إلى أي مجال لا يرغبه سواء كان ذلك من الأسرة أو المدرسة، وحق الاختيار مكفول تماماً.
أعلم بأن الظروف الاقتصادية لها دور كبير في اختيار مجال الدراسة ومن ثم العمل، ومتطلبات الحياة وخصوصاً في بلد يرزح تحت طائلة الفقر والانهيار الاقتصادي، يكون التفكير في مجال يسهل التوظف فيه حتمياً، بحيث من المحتمل أن يكلفك تحقيق رغبتك ودراسة المجال الذي يناسب ميولك، ألا تجد عملاً وتضطر للقبول بأي عمل هامشي حتى لا تعرض نفسك ومن تعولهم للفاقة.
كما أسلفت المعادلة صعبة للغاية، ويستعصي حساب الخسائر والمكاسب في كل حالة، ولكني لا أشك ولو للحظة أن الإنسان دائماً يبدع ويشعر بالاكتفاء في المجال الذي يحبه ويناسب شخصيته وميوله..