النيل الأزرق.. فشل تطبيق الحكم الذاتي

*
النذير إبراهيم العاقب
*
ظل إقليم النيل الأزرق منذ عهد السلطنة الزرقاء والتي حكمت السودان لأكثر من ثلاثة عقود، وذلك قبل أكثر من ألفي عام من الآن، ظل يمثل بوتقة من الترابط الاجتماعي والتآلف الإثني والتمازج القبلي بشكل قل أن يوجد مثيله في العالم أجمع، من حيث الإلفة والانسجام والتآلف والتكاتف والتعاون المثمر بين كافة مكونات الإقليم السكانية وبكل مسميات قبائله كافة وبدون استثناء، وصولاً لدرجة يمكن تسميتها بأنه صار كالبيت الواحد، لا فرق فيه بين هذا وذاك، وتلك حقاً الصورة الجامعة للنيل الأزرق طوال العهود الماضية، إلى حين تبدل ذاك الواقع المتميز مؤخراً، عقب اشتعال الفتن الإثنية والقبلية في النيل الأزرق، والتي أفضت إلى تشكيل
وضع إنساني غاية في الرداءة وصعوبة احتوائه جراء الاقتتال الإثني والقبلي المرير منذ يوليو الماضي ولم يتوقف إلا لماماً، ومن ثم تعود كوارث الاعتداءات الإثنية من جديد في ظل غياب كامل للسلطة، سواء المركزية أو المحلية، إلا عقب تغيير قائد المنطقة العسكرية السابق بالحالي، والذي استبشر به سكان الإقليم خيراً، عسى ولعل يحسم تلك الفوضى الضاربة بأطنابها في النيل الأزرق، والتي خلفت أكثر من ألف وثمانمائة قتيل وآلاف الجرحى والمصابين والذين يصعب تعدادهم بحق، ناهيك عن تشريد أكثر من مائة وسبعين ألف نازح منهم نحو مائة ألف توزعوا على ولايات السودان المختلفة.
بجانب أكثر من سبعين ألف آخرين توزعوا على محافظات الرصيرص وقيسان والدمازين، وما زال معظمهم يعيش حتى الآن في ملاجئ من المدارس غير مهيأة البتة للسكن والإيواء، حيث لا تتوفر لها أدنى مقومات الحياة الكريمة والخدمات الحيوية، الأمر الذي من شأنه خلق بيئة غير صحية، الأمر الذي من شأنه أن يشكل خطراً داهماً ومحتملاً على هؤلاء النازحين، وعلى السكان المجاورين في أحياء الرصيرص والدمازين وقنيص شرق.
ناهيك عن المعاناة التي يصعب وصفها للنازحين جراء النقص الحاد في الغذاء والدواء والكساء، في ظل عدم قدرة التدخلات الحكومية وغير الحكومية على تلبية احتياجاتهم الغذائية والصحية والكسائية، وغيرها، حيث من المعلوم أن إقليم النيل الأزرق في الأساس يعاني بشدة من نقص كبير في كافة المجالات والنواحي الاقتصادية ونقص الكوادر الصحية والمعينات المطلوبة في هذا الخصوص.
فضلاً عن تأزم الوضع الاقتصادي المزري بالإقليم، وتأثره كثيراً ومن كل النواحي خاصة الاقتصادية والاجتماعية جراء الأحداث الأخيرة، ناهيك عن عمليات النزوح واسعة النطاق لقطاع كبير من المنتجين من والمزارعين بمحليات الرصيرص والدمازين وود الماحي وقيسان والتضامن، وهذه الأخيرة تماماً عن دائرة الإيراد المالي لخزينة وزارة مالية الإقليم، جراء تصريح غاية في الغرابة أطلقه من قبل الفريق مالك عقار إبان انعقاد المؤتمر العام للجبهة الثورية بالدمازين، والذي رفض بشدة تقديمه أدنى الخدمات والتعاون مع محافظة التضامن لجهة تنفيذ الطريق القومي الدمازين بوط، الأمر الذي أفضى بسكان التضامن باتخاذ قرار وقتي قضى بتجميد كل الإيرادات المالية لخزينة وزارة المالية بالإقليم، علماً بأن محافظة التضامن تعتبر من أكبر المحافظات المنتجة زراعياً والأكثر دخلاً مالياً من بين كل محافظات وولايات السودان أجمع، دع عنك خروج عشرات الآلاف من المواطنين من دائرة الإنتاج العام جراء أحداث العنف التى شهدها إقليم النيل الأزرق مؤخراً، وذلك من خلال عمليات النوح الكبيرة للمواطنين الذين يعمل معظمهم في المحاصيل الحقلية والجروف والبساتين وصيد الأسماك على ضفتي نهر النيل الأزرق، ما أدى إلى تدهور وتدني الإنتاج في كافة المجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، الأمر الذي جراؤه أصاب الضرر الكثير جداً من القطاعات الاقتصادية المهمة في الإقليم مثال المنتجين وعمال الزراعة، وتأثر قطاع النقل والترحيل، وكذلك محطات الخدمة البترولية والقطاع الحكومي بالمحليات وخاصة وزارة المالية إثر تراجع الإيرادات بشكل كبير، وكذلك توقف إنتاجيات تجار التجزئة في مجال الخضر والفاكهة، وتأثر عدد كبير من أصحاب الطبالي والفريشة بعد تجدد الأحداث في التاسع عشر من أكتوبر الماضي، والتي عقبها غادرت آلاف الأسر مدن الإقليم الكبرى إلى ولايات أخرى، ومعظمهم من التجار وأصحاب الأعمال الحرة وموظفي القطاع الخاص والحكومي، فضلاً عن عدد التلاميذ الذين أكملوا تحويلهم إلى مدارس خارج الولاية بأعداد قاربت العشرين ألف تلميذ، وكذلك تقديم ألف ومئتين من المعلمين والمعلمات يعملون في المراحل الدراسية المختلفة بطلبات بالنقل إلى ولايات أخرى، الأمر الذي يشكل أكبر التحديات التي تواجه العملية التعليمية بالإقليم هذا العام وتنذر بالخطر، خاصة عقب توقف الدراسة في الإقليم لأكثر من شهرين جراء تسكين النازحين الهاربين من الأحداث بمحافظات قيسان وود الماحي في العديد من مدارس الدمازين والرصيرص.
وتواجه وزارة المالية بالنيل الأزرق الآن صعوبات جدية وبالغة التعقيد في مسألة تحصيل إيرادات مالية فاعلة يمكن عبرها رفد خزينة الوزارة بما يعينها على الأداء والقيام بدورها المنوط كما يجب، وذلك جراء خروج محليات الرصيرص وود الماحي وقيسان والدمازين من دائرة تحصيل الإيرادات لهذا العام، وكذلك إحجام محافظة التضامن من إيراداتها منذ أكثر من عام، مما يؤثر بشكل كبير على الصرف الحكومي على الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ومياه وكافة المجالات الخدمية، وذلك لتأثر القطاعات الإنتاجية والتجارية بالأحداث وتعطل وتوقف الأعمال إثر نزوح عشرات الآلاف من تلك المحافظات.
ولعل أكثر ما يطمئن الآن في الإقليم هو تحسن الوضع الأمني بشكل كبير، حيث يشهد الإقليم استقراراً أمنياً بائناً منذ تولي اللواء دكتور ربيع عبد الله آدم قيادة الفرقة العسكرية، والذي حقق بشكل كبير مسؤولية ضبط التفلتات الأمنية، وفتح الطرق وإصدار قانون الطوارئ، وأوامر صارمة بالتصدي لأي انفلات أمني متجدد في كل محافظات الإقليم، الأمر الذي حجم أمر التفلتات الأمنية ومن شأنه متى ما وجد التنفيذ الأمثل حسم الأمر وتثبيت دعائم الأمن والسلم الاجتماعيين في النيل الأزرق.
ومع ذلك، لابد للحكومة المركزية وحكومة الإقليم، العمل الجاد لأجل إيجاد معالجات ناجعة لمسألة تجدد الانفلات الأمني والذي يعقبه بلا شك حالات نزوح واسعة تفضي بلا شك إلى اكتظاظ المدن الكبرى بالنازحين، في ظل إمكانيات ضئيلة ولا تقوى حكومة الإقليم على تحمل تلك الأعداد الكبيرة والمتزايدة، فضلاً عن وضعهم المعيشي والصحي السيء والمتردي في ظل عجز الحكومة والمنظمات عن الإيفاء بواجباتها تجاه عشرات آلاف النازحين مما يشكل عبئاً أمنياً على حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية، وما لم تعمل الحكومتان معاً بجانب المنظمات الدولية والوطنية وكافة قطاعات المجتمع المحلي والإدراة الأهلية ومكونات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني لجهة معالجة الأزمة الخانقة التي يمر بها إقليم النيل الأزرق، وبأعجل ما يكون ومن جذورها، مع ضرورة وأهمية أن تشمل إجراء المصالحات الشاملة في الإقليم، بدءاً من فتح باب حوار يفضي إلى السلام والاتفاق مع جناح الحركة الشعبية من أبناء النيل الأزرق المنضوي تحت لواء عبد العزيز الحلو، والجدية في تسريع خطى التحقيق في ومع المتسببين في أحداث العنف القبلية تلك، وتقديم من تثبت إدانته بارتكاب جرائم والتحريض إلى العدالة وجبر الضرر، والعمل على عودة جميع النازحين إلى مناطقهم وقراهم، وقبل ذلك تهيئة وتوفير كافة الاحتياجات الأمنية والغذائية والصحية سيظل المهدد الأمني يشكل البعبع المرعب لاستباب الأمن وتحقيق الاستقرار العام في النيل الأزرق، وسيكون الإقليم عرضة لكافة احتمالات عودة وتجدد أعمال العنف والاقتتال القبلي لاحقاً بلا شك.
وبالعودة إلى عنوان المقال، (النيل الأزرق.. فشل الحكم الذاتي)، ليس من شك البتة أن الإقليم الذي لفتنا أعلاه بأنه كان يمثل (بيتاً واحداً)، لم يدخل إلى هذا النفق المظلم من الاقتتال والعنف القبلي وتفشي القبلية العنصرية وانتشار الكراهية، إلا عقب إنفاذ وتطبيق مبدأ الحكم الذاتي، والذي استبشر جل سكان الإقليم خيراً بتطبيقه، أملاً في استتشراف مستقبل أفضل وأزهر، وتفعيل الشراكات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالإقليم، عقب التطبيق العملي والفاعل لمبادئ وأساسيات ومفاهيم الحكم الذاتي في النيل الأزرق، والتي بلا شك من شأنها تحقيق أكبر قدر من التنمية الاقتصادية والازدهار التنموي وفي كافة المجالات، بيد أن الأمر انعكس إلى الضد تماماً، ودخل إقليم النيل الأزرق في نفق مظلم ليس من أمل في الخروج من ظلامه هذا ما بين يوم وليلة، وذلك جراء تطبيق السياسات الخاطئة في تطبيق الحكم الذاتي كما يجب، وانتهاج نهج المحاصصات القبلية والإثنية والولاء قبل الكفاءة في التعيينات الحكومية وفي كافة المجالات والوزراء ورؤساء المجالس العليا والمحافظين وغالبية المدراء العامين ونوابهم ورؤساء الأقسام الرئيسية والفرعية في المؤسسات الحكومية، ناهيك عن الأداء الحكومي الأضعف على كل المستويات، وعدم تفاعل حكومة الإقليم مع قضايا الإقليم الحيوية وعدم التنفيذ الأمثل للخطط والبرامج التنموية الكبرى في كل محافظات الإقليم، (إن وجدت)، فضلاً عن التجاهل وعدم التفاعل الإيجابي والحسم المباشر والفوري للمشكلات والقضايا الأمنية الأخيرة والتعامل معها ببطء حتى وصول قائد المنطقة العسكرية الجديد، والذي لولا وصوله وقراراته الفاعلة لما حسم الأمر ولا التفلت الأمني الذي استشاري بشكل مرعب في النيل الأزرق خلال الفترة الماضية، مما سبق تتضح الرؤية المستقبلية في النيل الأزرق، والتي تتطلب من حكومة المركز، إن كانت حريصة على تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي واستباب الأمن في النيل الأزرق، العمل الجاد لأجل إعادة النظر في حكومة الإقليم، وتعديلها بأعجل ما يكون بكفاءة عالية قادرة على قيادة النيل الأزرق لبر الأمان وتحقيق أكبر قدر من المصالحات الشاملة قبلية وإثنية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الفاعلة في النيل الأزرق.