التسوية السياسية في السودان والسبيل للخروج من الأزمة..

عبد القادر محمود صالح
يبدو أن مصطلح التسوية السياسية يعني فيما يعني الوصول إلى نقطة توافق سياسي بين عناصر الصراع السياسي في بلد ما، وهذا التوافق يتم من خلال تنازلات كبرى يقدمها كل طرف في العملية الصراعية من أجل بلوغ نقطة التوافق والشروع في إدارة الدولة بشكل يجعلها تتقدم خطوات نحو الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية مما يساعد في خلق بنية متامسكة داخل الدولة تهيئ إلى الاستقرار السياسي المستدام.
في السودان وبعد انتصار ثورة ديسمبر العظيمة على نظام الإسلام السياسي الذي حكم البلاد ثلاثون عاماً من الظلم والقهر والقمع والاستبداد والفساد، جاءت حكومة الثورة بعد مخاضٍ عسير من المشاكسة مع المكون العسكري المنحاز إلى الثورة زوراً وبهتاناً. تلك الحكومة الثورية لم تكن في أفضل حال لإدارة الدولة، بل اعتراها كثير من العوائق الداخلية والخارجية، فضلاً عن أنها ورثت البلاد بكل طاعونها وفسادها ومشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعلاقاتها الخارجية، زاد عليها استمرار مشاكسة المكون العسكري لها رغم وضعية الشراكة السياسية التي نصت عليه الوثيقة الدستورية.
المكون العسكري ظل يضع العراقيل أمام تقدم حكومة الثورة للتصدي للتركة الثقيلة لحكم النظام السابق، وكان على هذا النهج حتى صبيحة انقلاب ٢٥ أكتوبر لأسباب عديدة منها أن المكون العسكري في الأصل هو امتداد للنظام البائد وجماعات المصالح وقواها الاجتماعية أصبحت تنظر إلى المكون العسكري باعتباره البديل للنظام السابق الذي يمكن أن يستمر في حماية مصالحها وأن لعنة مجزرة القيادة أصبحت تلاحق قيادات المكون العسكري حتى هذه اللحظة، وهذا السبب جعل المكون العسكري يتخوف من مصيره إذا تمكنت حكومة الثورة من بسط نفوذها السياسي على الدولة، بجانب ذلك هنالك عوامل خارجية كان لها أثر كبير في فتح شهية المكون العسكري للسلطة، وهنا يمكن الإشارة إلى الدعم السخي الذي ظلت دول إقليمية عديدة تقدمه للمكون العسكري وتحفز قياداته في المضي على تصفية الثورة ومن ثم حكم البلاد.
التسوية التي تجري الآن لن يكون لها أي تأثير في مستقبل الدولة السياسي والاقتصادي ولن تخرج البلاد من وهدتها الراهنة، بل ستعقد المشهد السياسي بمزيد من الصراع الصفري الذي لن ينتهي إلى تهدئة تقود البلاد إلى الاستقرار السياسي المستدام.
بعد مضي عام من انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، الانقلاب الذي جاء بفرضية أن الأوضاع تحتاج إلى تصحيح مسار، الآن أعتقد أن الأوضاع تفاقمت إلى أسوأ من ما كانت عليه قبل الخامس والعشرين من أكتوبر وتحتاج إلى انقلاب تصحيحي آخر هذه المرة أكثر من حوجتها سابقاً.
حصاد العام من الانقلاب واضحة للعيان، نشهدها في كل زاوية من زوايا المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الماثل أمامنا، فخلال هذه الفترة لم يفلح المكون العسكري وشركاء اتفاق جوبا من إيجاد بوصلة تصحيحية لقيادة البلاد نحو وجهة الاستقرار السياسي والاجتماعي والنمو والتنمية، بل ظلت أوضاع ما قبل سقوط النظام البائد كما هي عليه حيث ساءت الأوضاع السياسية وانتشرت الصراعات القبلية والأهلية وزادت حدة الصراع السياسي بين المكونين السياسية من جهة والمكونات العسكرية بكل تشكيلاتها من ناحية أخرى، ولم يصل الجميع إلى توافق وطني يؤدي إلى الخروج من عنق الزجاجة، ظلت القوى المدنية منقسمة سياسياً وهذا طبيعي أن يحدث عدم تطابق بين وجهات النظر المتابينة التي تمثلها تلك القوى، لكن ما هو مستغرب أن تظل القوى العسكرية (نظامية ومليشاوية) في حالة عدم توافق ولم تمض خطوة نحو الدمج والهيكلة وفق عقيدة عسكرية وطنية واحدة تجعلها كباقي القوات المسلحة في البلدان الأخرى.
أن أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل الانقلاب العسكري بلغت درجة غاية في الخطورة ربما ستجر البلاد إلى مصير كثير من الدول التي أصبحت أثراً بعد عين إذا استمرت الحالة الانقلابية الراهنة.
أعتقد أن أي فترة انتقالية تعقب ثورة شعبية ينبغي أن تستصحب معها قضايا وأهداف الثورة في عملية إدارة الدولة وصياغة مؤسساتها الوطنية وفق رؤية الثورة وهذا لم يحدث في ظل حكومة البرهان.
الآن هنا في السودان الوضع يختلف تماماً بحيث أن الفترة الانتقالية الأولى لم تكن بمستوى طموح الثورة في الحرية والسلام والعدالة، فعجزت تماماً حكومة ما بعد الثورة في إدارة الفترة الانتقالية رغم الإجماع الثوري الذي كانت تتمتع به وتوفر كل المطلوبات من شاكلة وثيقة دستورية حظيت بقبول واسع وعريض، رغماً عن ذلك فشلت تلك الحكومة بسبب عدم التوافق مع المكون العسكري، وبرأي، المكون العسكري الذي انقلب على حكومة الثورة بحجة تصحيح المسار، لا يرغب في تغيير حقيقي وفق أهداف الثورة المعلنة في إقامة دولة مدنية حديثة تهدم كل ما هو قائم وتبني أسساً جديدة للدولة السودانية الحديثة، وعدم رغبة المكون العسكري في التغيير الحقيقي يمكن عزوها إلى اعتبارات عديدة محلية وإقليمية ودولية، وكل هذه المستويات تتداخل مع بعضها في التأثير المباشر على دائرة صنع القرار في المؤسسة العسكرية، ولكنها تتفق كلها حول فكرة أن أي تغيير حقيقي نحو دولة مدنية وديمقراطية سيشكل تهديداً مباشراً لمصالح هذه المستويات.
لذلك أعتقد أن أولى المطلوبات وأهمها لتجاوز فشل السلطة الراهنة هو الإرادة الحقيقية للمؤسسة العسكرية وانسجامها مع رؤية وأهداف الثورة السودانية وإن لم يحدث ذلك، سيستمر الوضع على ما هو أسوأ من ما عليه الآن، وهنالك أيضاً لابد من توافق قوى الثورة حول الحد الأدنى لإدارة الفترة الانتقالية بما يتماشى مع رغبة الثوار وإرادة الشعب السوداني في إقامة دولة مدنية حديثة تلبي له جميع مقومات الحياة الضرورية والرفاه الاقتصادي والاجتماعي.
أعتقد أن هذه المطلوبات لو توفرت مع وجود إرادة حقيقية من المؤسسة العسكرية فإن الأوضاع في الدولة ستكون أكثر تماسكاً واستقراراً في مناخ يسوده التعاون والتنسيق المشترك وصولاً إلى الأهداف الكبرى للثورة السودانية.
لا غبار على أن البرهان واجه ضغوطات من قبل الرباعية الدولية بقبول التسوية بشكلها المرفوض من جهات محلية عديدة من بينها قوى الإسلام السياسي، التسوية الجارية الآن هي الطريق الأقصر إلى خروج آمن بالنسبة لقيادات المكون العسكري وأعتقد أن الرباعية الدولية لم تخف نيتها من استخدام العصا ضد المكون العسكري إذا استمر في رفضه للحلول المقترحة بواسطة الرباعية الدولية، وفي حال تعنت المكون العسكري في موقفه المتمثل بعدم تسليم السلطة إلى المدنيين إلا بعد الانتخابات فإن المجتمع الدولي بشكل عام والولايات المتحدة على وجه التحديد ستغير من آليات تعاطيها مع المكون العسكري، وربما ستزيد من الضغط النوعي على قيادات المكون العسكري بالتلويح باستخدام كافة الوسائل المتاحة لإجبار المكون العسكري القبول بالتسوية المرضية، وهنا تجدر الإشارة إلى تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بلينكين التي ألمحت إلى استخدام العصا ضد الذين يقفون أمام الانتقال المدني في السودان، كل هذا يؤكد أن البرهان واجه ضغوطات غربية بقبول التسوية التي ستسمح لقيادات المكون العسكري الوجود في قلب التأثير السياسي من خلال مجلس الدفاع والأمن والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهذين المستويين من مستويات هياكل السلطة القادمة سيكون لهما التأثير المباشر على العملية السياسية في الفترة الانتقالية القادمة، بالإضافة إلى إعطاء قوات الدعم السريع استقلالية الإرادة والإدارة. في تقديري، التسوية الجارية وفرت للمكون العسكري العديد من الفرص التي فشلت الوثيقة الدستورية السابقة في توفيرها فمن الطبيعي أن يفض السيد البرهان الوفاق مع الإسلاميين الذي بدأ يتشكل عقب الانقلاب مباشرة. والإسلاميين كغيرهم من قوى الثورة الحية ولجان المقاومة سيعملون على إفشال التسوية الجارية بكل أدوات النضال السلمي وصولاً إلى وثيقة دستورية توافقية. لكن أخشى أن تبوء كل محاولات الأطراف الرافضة للتسوية بالفشل وذلك لأن المجتمع الدولي كله يقف مع التسوية ويتشكك في قوى الثورة ذات التوجه الجذري لحل قضايا السودان بالإضافة إلى تخوفهم من عودة الإسلاميين إلى الحكم بالتواطؤ مع المكون العسكري.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب